الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

أبطال صامتون: في قلب العطاء.. وجع!

 

قيل إن فاقد الشيء لا يعطيه، لكنني رأيت بين البشر من يفنّد هذا القول بفعله!، أشخاصاً ينسجون بخيوط الألم حبال الأمل للآخرين، فيحفزون على العطاء، وينيرون دروب المحيطين بهم بنور قلوبهم، رغم أنهم أنفسهم يعيشون في ظلال الوحدة والخذلان.

 

وحين تسأل أحدهم: لماذا تقف وحدك على حافة هذا العطاء؟ يبتسم كمن يحتضن الغيم ويقول: لأنني وجدت الناس منشغلين بأحمالهم، ونسيتني الأبواب التي لم تُطرق يوماً، فاخترت أن أكون شمعة تذوب لتنير، لا صوتاً يئن في الظلام.

 

فتتساءل، هل هو نبيل في تضحيته!، أم أنه لا يزال يحرم نفسه الحياة التي يستحقها؟ أهو حكيم يرى العالم من زاوية لا نبلغها، أم أنه يدفن صوته بين حنايا ذاته المرهقة؟ هكذا يبقى السؤال معلقاً بين نبض الشموع وصدى الوحدة، يبحث عن جواب لا يأتي.

 

ربما يجد البعض أن سلوك هؤلاء الأشخاص غريب، فهم يعطون، وهم أنفسهم بحاجة ماسة إلى العطاء، لكن الحقيقة هي أن العطاء فعل إنساني نبيل، وهو في كثير من الأحيان مصدر قوة وسعادة للذي يعطي أكثر مما هو عليه بالنسبة للذي يتلقى، ففي أعماق كل إنسان رغبة في أن يترك أثراً إيجابياً في هذا العالم، وأن يساهم في سعادة الآخرين، وعندما يجد الإنسان نفسه غير قادر على تحقيق هذه الرغبة بطرق أخرى، فإنه يلجأ إلى العطاء كوسيلة للتعبير عن إنسانيته.

 

أمثلة واقعية:

في التاريخ الحديث، نجد شخصيات مثيرة للجدل مثل: الأم تيريزا، التي كرست حياتها لخدمة الفقراء والمهمشين في مدينة كلكتا، رغم أنها كانت تعيش في فقر شديد، كانت تقدم لهم الدعم العاطفي والجسدي الذي كان أكثر من مجرد مساعدة مادية، فهذا العطاء جاء من مكان عميق من معاناتها الداخلية، من فهمها أن الألم ليس ضعفاً، بل هو جسر يربطنا بالإنسانية، وهذا النوع من العطاء يشير إلى أن المعاناة الشخصية لا تمنع العطاء، بل قد تحفز عليه.

 

أما في حياتنا اليومية، نجد العديد من الأشخاص الذين يقدمون للمجتمع رغم معاناتهم!، أحمد، الذي فقد والديه في حادث مؤلم، يتطوع في معهد للأيتام، يعطي من وقت جهده وماله لمساعدة الأطفال الذين يمرون بنفس التجربة، ورغم أنه يواجه صراعاً داخلياً مع حزنه، إلا أن ما يقدمه لهؤلاء الأطفال يشفي جروحه جزئياً، ويعطيه إحساساً بالمعنى والهدف.

 

الدوافع النفسية:

تدفع بعض الشخصيات إلى العطاء رغبتهم العميقة في تحقيق الذات، وفي كثير من الأحيان، يكون العطاء وسيلة لملء الفراغات النفسية الناتجة عن الحزن أو الفقد، والعطاء هنا يصبح سبيلاً للبحث عن الراحة الداخلية والتصالح مع الذات، وقد يكون العطاء أيضاً محاولة للتغلب على الألم الشخصي، بتحويله إلى قوة يمكن من خلالها مساعدة الآخرين، أو ربما هو ببساطة تعبير عن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، التي تجسد الرغبة في تغيير العالم، أو التأثير فيه، حتى لو بجرعة صغيرة من العطف.

 

التأثير على الآخرين:

عندما يتلقى الآخرين هذا النوع من العطاء، وهو عطاء يأتي من أشخاص يعانون، يشعرون بنوع من الإلهام، فقد يغير ذلك نظرتهم للحياة، ويمنحهم الأمل في أن لا شيء مستحيل، حتى في أوقات الصعاب!، هؤلاء الذين يتلقون هذا العطاء قد يشعرون بالراحة، ليس فقط لأنهم تلقوا المساعدة، ولكن لأنهم شاهدوا تجسيداً حياً للقوة البشرية في أسمى صورها، وهي القدرة على العطاء رغم الألم.

 

التوازن بين العطاء والتلقّي:

هل يجب أن يكون العطاء دائماً على حساب الذات؟ وهل هناك توازن يمكن تحقيقه بين العطاء والتلقّي؟ من الضروري أن نبحث عن هذا التوازن، لأن العطاء المستمر دون أخذ استراحة، أو اهتمام بالنفس يمكن أن يؤدي إلى الإرهاق النفسي والجسدي، فقد يكون العطاء بمثابة شريان حياة، لكنه قد يصبح أيضاً عبئاً! إذا لم يترافق مع الاهتمام بالنفس والاحتياجات الشخصية، لذا، على المجتمع أن يساهم في تقديم الدعم لأولئك الذين يعطون دون حدود، وأن يشجعهم على أخذ فترات راحة وإعادة شحن طاقتهم.

 

الدور الاجتماعي:

المجتمع له دور كبير في تشجيع العطاء، من خلال توفير بيئات داعمة، ويمكن للمجتمع أن يخلق مساحات حيث يستطيع الأفراد الذين يعطون بكثرة أن يجدوا الراحة النفسية والمعنوية، وأن يدرك المجتمع أهمية دور هؤلاء الأبطال الصامتين ويعترف بتضحياتهم، وأن يوفر لهم الدعم العاطفي والعملي.

 

مقارنة ثقافية ودينية:

في بعض الثقافات، يُنظر إلى العطاء كجزء أساسي من الهوية الجماعية، ففي الثقافات الشرقية مثل: الشرق الأوسط، يُعتبر العطاء رمزاً للنبل والشرف، وهو لا يُقدر فقط من خلال المساعدة المادية، بل من خلال العطاء الروحي والعاطفي أيضاً، أما في الغرب، فقد يبرز العطاء أكثر في السياقات الفردية، ويُشدد على العطاء من خلال العمل الخيري المؤسسي، لكن في كلا السياقين، يبقى العطاء صفة إنسانية محورية.

الدين أيضاً يعطي العطاء أهمية كبرى، فالإسلام يحث على الصدقة والإحسان رغم الحاجة، بينما في المسيحية يُعتبر العطاء من دون انتظار مقابل تجسيداً للمحبة الإلهية.

 

تأثير الأحداث التاريخية:

الأحداث التاريخية الكبرى، مثل: الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، غالباً ما تبرز قيمة العطاء والتضحية، ففي الأوقات العصيبة، يظهر الأشخاص الذين يقفون في صفوف العطاء، يعززون الأمل في ظل الظلام!، هؤلاء الأبطال يقدمون دروساً في الإنسانية، ويعلموننا أن العطاء ليس مجرد فعل مادي، بل هو رسالة تُكتب بدماء القلوب.

 

خاتمة:

وفي النهاية، تبقى قصص العطاء المتناثرة حولنا تجسد الحقيقة العميقة: أن الألم يمكن أن يتحول إلى نور إذا ما تم توجيهه لصالح الآخرين، فهؤلاء الأبطال الصامتون الذين يضحون بأنفسهم من أجل إسعاد الآخرين، يحملون في قلوبهم رسائل مليئة بالحب والأمل، مذكّرين إياهم أن العطاء لا يأتي من الوفرة، بل من الشجاعة والقدرة على أن تضيء حياة الآخرين رغم الظلام.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجل الذي يتحدث باسم الصمت!

  الرجل الذي يتحدث باسم الصمت! ليس كل من أمسك ميكروفونًا صار لسان مؤسسة، وليس كل من وقف أمام الكاميرا كان جديرًا بأن يُنصت له، ففي مكان ما، ...