تأملات
في حضرة الذكرى!
على
ضفاف نهرٍ قاتم، يبتلع نور المساء، تجلس الروح وحيدة، منهكة من حمل الذكريات التي
لا تعرف طريقا للزوال! ينساب النهر ببطء، وكأن الماء يحمل معه ثقل أحزان لا حصر
لها.
تأملتُ
في انعكاس صورتي على سطحه المموج، لم أعد أعرف نفسي! من هذا الشخص الذي يجلس هنا؟
أهو أنا كما كنتُ قبل أن تقتحم ذكراها عالمي، أم هو ظل لما تبقى مني بعدها؟
في
لحظةٍ، عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، كنت أراها للمرة الأولى، امرأة محاطة
بهالة من الغموض والجمال، والكحل حول عينيها لم يكن مجرد زينة، بل كان أشبه بإطارٍ
يرسم قصةً لم يُسمح لي بقراءتها كاملة، أما أهدابها الطويلة فكانت مثل ستائر تخفي
عالماً مليئاً بالأسرار، عالماً كنتُ أرغب في اكتشافه مهما كلفني الأمر.
لكن
هذا الجمال كان يحمل بداخله تناقضا مؤلماً! تلك العيون، التي بدت وكأنها تعدني
بالخلود في حبها، كانت أيضاً تخبئ رحيلاً لم أكن مستعداً له! كأنها تقول لي:
"ستكون جزءاً من حياتي، لكنني لن أبقى في حياتكَ"، كانت تلك النظرة هي
البداية: بداية الحيرة، بداية الحب، وبداية الشجن.
مع
مرور الأيام، بدأ الشك يتسلل إلى داخلي، لم يكن شكاً في حبها، بل شكاً في قدرتي
على فهم ما كنا عليه! لماذا كانت نظراتها غامضة إلى هذا الحد؟ لماذا شعرتُ دائماً
وكأنني أمسك الماء بين يدي؟
كلما
حاولت أن أقترب منها أكثر، ازدادت المسافة بيننا، وكأنها كانت طائراً أرفض أن
أتركه يحلق، وهو مصمم على حريته.
الشك
كان أشبه بزورق صغير في البداية، لكن سرعان ما أصبح عاصفة تجتاحني من الداخل! كل
كلمة لم تُقال، وكل لحظة لم تُعش، تحولت إلى حجر ثقيل يُلقى في مياه قلبي، يصنع
موجات من القلق والحزن.
حاولتُ
أن أُصلح كل شيء، وأن أُعيد بناء ما كسرته الرياح، لكني لم أدرك أن الحب، حين
ينهار، لا يُصلح، بل يُترك لينتهي بكرامة.
حين
جاء الفراق، لم يكن وداعاً واضحاً، بل كان انسحاباً بطيئاً أشبه بالموت البطيء! في
كل مرة كانت تبتعد قليلاً، كنتُ أشعرُ وكأن جزءاً من روحي يُنتزع مني! لم أدرِ هل
كان غدراً، أم هجراً؟ ربما كان كلاهما.
الغدر
هو أن تعد بالبقاء ثم ترحل، والهجر هو أن تختار الصمت عندما تحتاجكَ القلوب أكثر
من أي وقت مضى، لكن الغريب أنني قبلت هذا الفراق، ولم أتمرد عليه كما كنت أتصور، ربما
لأنني كنت أدرك في أعماقي أن حبها كان أكبر مني، وأكبر منها.
كان
حباً لا يصلح للحياة اليومية، ورتابة روتينها، بل حباً من النوع الذي يُكتب عنه في
القصائد، ويُحكى في الأساطير، لكنه لا يعيش في الواقع.
وسط
هذا الحزن، رفرفت أجنحة طائر فوق النهر! تابعتُ حركته بعينين متعبتين، وكأنني أبحث
فيه عن إجابة.
لماذا
يبدو الطائر حراً بينما نحن أسرى ذكرياتنا؟ هل لأننا نتمسك بما كان، بينما هو لا
ينظر إلا لما سيكون؟
في
ملكوت الله، لكل مخلوق حريته، لكننا نحن البشر، نختار أن نُقيّد أنفسنا بأطياف
الماضي، بأيتام الشجن الذين لا يملكون مكاناً في الحاضر ولا وعداً في المستقبل،
ربما كان هذا الطائر رسالة: دعوة للتخفف من العبء، وللطيران بعيداً عن ذكريات لم
تعد تنتمي لنا.
حين
غابت الشمس خلف الأفق، بدا النهر أكثر سوادا، وكان كحل الليل يغطي كل شيء، لكنه لم
يستطع إخفاء ما في داخلي!
الذكرى
لا تموت، بل تبقى حية، أيتاما يعيشون في زوايا الروح! قد نتركهم هناك، نعتني بهم
أحيانا، ونهرب منهم أحياناً أخرى، لكننا لا نتركهم أبداً.
أدركتُ
في تلك اللحظة أن الشجن ليس عدواً! هو صديق يذكّرنا بما كنا عليه، بما فقدناه،
وبما تعلمناه، ربما لن أطير يوماً مثل ذلك الطائر، لكنني سأحاول أن أحمل ذكرياتي
بسلام، لا كعبء، بل كجزء من الحكاية التي جعلتني ما أنا عليه الآن.
هكذا،
تركتُ النهر وراء ظهري وعدتُ إلى عالمي، إلى واقعي، والذكرى لا تزال هناك، لكنني
لست أسيراً لها بعد الآن!، أيتها الذكريات، كوني أيتاماً، لكن لا تكوني أسياداً.
:
جهاد غريب
نوفمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق