تذكرة إلى لا مكان
"اغترابُ الإنسان بين وعودِ العملِ
واستنزافِ القيمة"
كان الظلّ الذي ألقاه الوعد طويلًا...
ظلّ شجرةٍ باسقةٍ نظنها تظللنا،
فلا ننتبه إلا لجذورها المتشبثة بأرض
احتياجنا.
في هذه "المحطة" التي
أوقفتني عندها الحياة،
أتلقى تذكرةَ سفرٍ بلا وجهةٍ محددة،
وأدفع مقابلها من عمري العملةَ
الأثمن.
هل يُقاس العطاء بما يُمنَح،
أم بما يُنتزَع من روح الإنسان
وهو يُصاغ في قوالب ليست له؟
أنا الجسر الذي يعبر عليه الآخرون
إلى ضفاف أمانهم.
أُبنى بحجر الفكرة وملاط الجهد،
ثم أُهمَل حتى تتشقق جوانبي،
لكنهم يطالبونني أن أبقى متينًا
ليعبروا هم فقط.
أتذكّر مرةً كنت أكتب اسمي على
صفحاتٍ بيضاء،
وكان الضوء خافتًا لكن الأمل ساطعًا.
قال لي الطفل الذي كنتُه:
"لِمَ تكتب كل هذا؟"
فأجبته:
"لأتذكّر من أنا."
هل الجوع إلى الاعتراف أخطر من الجوع
إلى الخبز؟
أم هما وجهان لانكسارٍ واحد؟
يأتي "الجدول" ككائنٍ
افتراسيّ،
يزحف على وقتنا،
يلتهم ساعاتنا،
ويحوّل إبداعنا إلى خاناتٍ باردة.
كل مهمةٍ مكتملة
ليست سوى قضيبٍ جديد
في هذا القفص الواسع.
أنام على وعدٍ بأن القطار قادم.
رأيتُ في كابوس أني أركب القطار
الأخير،
لكنه كان يدور في حلقةٍ مفرغة،
لا يصل، لا يتوقف، فقط يدور...
وأستيقظ على صافرة إنذار هذا الجدول
الذي لا يرحم:
"ألم تُنجز بعد؟"
نعم!
أنجزتُ انهياري!
أنجزتُ صمتي!
أنجزتُ وَهمك الذي تسميه
"فرصة"!
أنجزتُ أن أكون ظلّك، وجسرَك، وعقلك
المستعار.
في أي لحظةٍ يتحول الصبر
من فضيلةٍ إلى شريكٍ في الجريمة؟
كأنني أعيش مقولة مأثورة:
"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ، فلا
تَقنَعْ بما دون النجوم."
نعم...
لكنهم لم يخبرونا أن النجوم هنا
تُباع بالساعة.
إنها معادلة الاغتراب الكبرى:
أبيعك حاضرًا مُعلَّقًا بمستقبلٍ
واهم،
وأشتري منك بثمنٍ بخس درجتك التي
ستوصلك إلى السماء.
المحطة... التذكرة... القطار...
صافرة لا تُسمع،
وسكة لا تصل.
كل الرموز تشير إلى حركة،
لكنني في مكاني لا أتحرك.
كل الوعود تشير إلى مستقبل،
لكنني أسكن في حاضرٍ لا ينتهي.
وماذا لو أن الرحلة كلها كانت وهمًا؟
وماذا لو أن المحطة هي الوجهة؟
في لحظات الصفاء النادرة،
أتخيل نفسي بعد سنوات،
أقرأ هذه الكلمات التي أكتبها الآن
لغريب،
في غرفةٍ لا يعرفها أحد.
ويسألني صوتٌ من الماضي:
"أكنتَ راضيًا؟"
فلا أجد إجابة.
وأسأل:
أكان ذلك أنا؟
أم كان شبحًا من أشباح
"المحطات"
التي وقفنا عندها طويلًا،
حتى صرنا جزءًا من أثاثها؟
يقولون:
اصبر، فالصبر مفتاح الفَرَج.
فأجيب:
وماذا لو كان الباب بلا قفل،
وكان السجن هو الفَرَج نفسه؟
ربما لن يأتي قطارهم أبدًا.
وربما كانت صفّاراتهم مجرد أصداءٍ في
وادٍ فارغ.
لكنني سأظل أكتب،
سأظل أنحت كلماتي من صخور يأسهم،
لا لأنتظر قطارًا،
ولا لأرضي جدولًا...
بل لأبني سكّتي الخاصة:
سكة لا تُعبَّد إلا بالصدق،
ولا تُضاء إلا بنار التجربة،
ولا تُسافر إلا بالذات.
سكة قد لا تقودني إلى نجومهم،
لكنها ستقودني حتمًا إلى نفسي.
فلعلّ الحركة الحقيقية
ليست في انتظار القطار،
بل في شجاعة السير على السكة،
حتى ولو بمفردنا.
جهاد غريب
نوفمبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق