السبت، 8 نوفمبر 2025

خيمة الحلم الكبير: حين يشدّ الجميع الوتر

 

خيمة الحلم الكبير: حين يشدّ الجميع الوتر

 

"تأملات في الحلم الجماعي والتعب الذي يخلق الدهشة"

 




سؤال يدور في الخفاء: ما الذي يجعل الهمس يتحول إلى وطن؟

في البدء كانت الفكرةُ همسًا، تشبه نغمةً وحيدة تبحث عن لحنٍ يكملها.

خرجت من فمٍ مجهول، سكنت في فضاءٍ مزدحمٍ بالوجوه المتعبة، وراحت تفتّش عن صدورٍ قادرة على حملها.

لم تكن سوى فكرة بسيطة — كلمعةٍ في ذاكرةٍ عابرة — لكنها أرادت أن تصير وطنًا صغيرًا للكلمات، مساحةً تتقاطع فيها الأصوات دون خوفٍ من ضجيج العالم.

هكذا تبدأ الأحلام الكبرى دائمًا: بخطواتٍ خجولة، وبأيدٍ ترتجف من فرط الأمل.

 

كان أول من أصغى إليها يؤمن بأن الأشياء تُخلق من الإيمان أكثر مما تُخلق من المال أو التخطيط.

قال في نفسه: "يكفي أن نؤمن، والباقي يأتي".

لكنّ الحلم، كعادته، لا يكتفي بالإيمان، بل يطالب بالزمن، وبالوجوه التي لا تملّ الوقوف عند البدايات.

وهكذا بدأت الرحلة.

 

كل مشروعٍ جماعي هو اختبارٌ لقدرة الإنسان على أن يحبّ ما يتعبه.

في البداية كان الضوءُ واضحًا، والخطواتُ متقاربة، والهمساتُ متفائلة كأغنيةٍ وُلدت للتوّ.

لكن ما إن بدأت الفكرة تكبر، حتى بدأ الجميع يختلف على الطريقة التي ينبغي أن تُسقى بها النبتة.

أحدهم رأى الماءَ كثيرًا، وآخر رآه قليلًا، وثالثٌ تساءل:

هل النبتة أصلًا تحتاج إلى الماء أم إلى الظل؟

 

هكذا تسلّل الشكّ إلى الفكرة.

صار المشروع الذي وُلد من الإيمان، محاصرًا بالأسئلة الصغيرة التي تشبه الغبار؛ لا تقتل النور لكنها تعيقه عن الوصول.

ومع كل اجتماعٍ جديد، كانت المسافات تتسع قليلًا،

حتى غدا الحلمُ أشبه بخيمةٍ ضخمة، كلٌّ فيها يشدّ الوتر إلى جهته.

 

في قلب هذا الزحام، كانت الفكرة تتنفس بصعوبة.

كانت تراقبهم — أولئك الذين أحبّوها ثم تعبوا منها — وتشفق عليهم.

فهي تعرف أنّ العمل الجماعي ليس ساحةً للبطولات الفردية، بل مرآةٌ تُظهر ما نخفيه من رغبات التملك والظهور.

الإنسان حين يجتمع بغيره، يكتشف كم هو هشّ أمام فكرة المشاركة.

يخاف أن يذوب، أن يفقد صوته، أن يصبح مجرّد حرفٍ في نصٍّ لا يحمل توقيعه.

 

لكنّ الفكرة — تلك الكائنات اللامرئية التي نخلقها ثم تخلقنا — لا تهتمّ بالأسماء.

هي تعرف أن الخلود لا يحتاج إلى شهرة، وأن النور لا يُقاس بعدد من يصفقون له.

تحتاج فقط إلى من يبقيها حيّة، إلى من يؤمن بأن النصّ، أيّ نصّ، لا يكتمل بيدٍ واحدة.

 

كانت الاجتماعات تتكرر، والعروض تُعرض، والملفات تُرسل وتُراجع،

لكن شيئًا ما كان يتآكل من الداخل.

ربما هو الإخلاص، وربما التعب، وربما تلك "الواقعية" التي تتسلل حين يدرك الناس أن الأحلام تحتاج إلى وقتٍ أكثر من أعمارهم.

حينها يتراجع البعض خطوةً للوراء، يرفعون أيديهم معتذرين،

بينما يبقى آخرون على العهد، يرممون الفكرة بما تبقّى من شغفهم،

كمن يرقّع أشرعة السفينة وسط العاصفة.

 

كان أحدهم يقول:

"كلّ فكرة عظيمة تحتاج إلى من يحرسها من الفتور".

في الواقع، يصعب مقاومة الفتور.

إنه مثل الغبار، يأتي من تحت الأبواب،

يخنق النوايا الطيبة ببطء،

ويحوّل الحماسة الأولى إلى رتابةٍ يومية،

مع الوقت، فقدت الاجتماعات معناها.

صارت عبئًا، والمراسلات تكرارًا، والكلماتُ مجرّد واجبٍ أخلاقيٍّ لا دفء فيه.

 

ومع ذلك، ظلّ في الحلم شيءٌ لا يموت.

ربما هو الحياء القديم الذي يسكن الفكرة حين ترفض أن تُدفن.

ربما هو صدى الأصوات التي كتبت أول مقالةٍ، أو تركت تعليقًا، أو حلمت بصفحةٍ تُجمع فيها القلوب قبل الحروف.

تلك الأصوات التي غابت عن الشاشة، لكنها بقيت في الذاكرة كوشوشةٍ تحثّ الآخرين على الاستمرار.

 

في كل فكرةٍ نبيلة، هناك لحظةُ تعبٍ خفيّ،

ولحظةُ عنادٍ تُعيد إليها الحياة،

كأنّ الأفكار تعرف من يحبّها حقًّا؛

من يكتب لأجلها لا لأجل اسمه،

ومن يؤمن أن ما يُكتب في الخفاء قد يُنير يومًا ساحةً لا يعرف أصحابها بعضهم بعضًا.

 

وهكذا، ومع مرور الوقت، لم تعد المسألة مشروعًا أو ملفًا.

تحوّلت إلى مرآةٍ عميقة يرى فيها كلّ إنسانٍ جزءه المفقود:

من تعبَ من الإقناع،

ومن خاف أن يخسر نفسه في جماعة،

ومن تعلّم أن الفكرة لا تُملك بل تُرافق،

ومن أدرك أخيرًا أنّ كلّ حلمٍ جماعي هو امتحانٌ للعزلة داخلنا.

 

لقد كانت الفكرة، في جوهرها، درسًا في الفلسفة الإنسانية:

أنّ الإنسان كائنٌ يسعى لأن يُسمع صوته وسط جوقةٍ كبيرة،

لكن الصدى لا يعود إليه إلا إذا أنصتَ إلى الآخرين أولًا.

أنّ المشاريع الجماعية ليست عن الإنجاز فقط، بل عن التطهير —

تطهير النوايا من شوائب الأنا، وتنقية الحلم من ثقل الواقع.

 

في النهاية، لم تمت الفكرة.

تغيّرت ملامحها فقط، مثل نهرٍ يبدّل مجراه ليصل إلى البحر من طريقٍ آخر.

بعضهم غادر، وبعضهم بقي، وبعضهم نسي أنه كان جزءًا منها،

لكنّها ظلت تمشي في الذاكرة كأغنيةٍ ناقصة،

وهكذا، بقيت الفكرة حيّة في ذاكرة من مرّ بها،

كلّ من يسمعها يضيف إليها سطرًا جديدًا.

 

فالأفكار لا تموت حين تتعب الأجساد،

بل حين يفقد الناس الإيمان بأن المحاولة تستحق.

ولأن الإيمان كان أول ما وُلد في هذا المشروع،

فهو آخر ما تبقّى منه.

 

في آخر صفحةٍ من هذا الحلم، تُكتب عبارة بسيطة:

"ليس المهم من بدأ، بل من أبقى الفكرة حيّة".

 

وهكذا، حين يسأل أحدهم بعد أعوامٍ طويلة:

من أسّس تلك المساحة؟

من صمّمها؟ من نشر أول نصٍّ فيها؟

لن يجيب أحد.

لكنّ الفكرة ستبتسم،

لأنها تعرف أن الأسماء لا تصنع الخلود،

وأن الخلود، مثل الحلم الجماعي،

يولد كل يومٍ في قلبٍ جديدٍ يقرر أن يجرّب مرةً أخرى.

 

وأفكر الآن، كم من الأحلام نامت في قلوبنا لأننا ظننا أنها تحتاج إلى جمهورٍ لتستيقظ.

ربما كانت الفكرة لا تريد سوى إصغاءٍ واحدٍ صادق، لا أكثر.

كل ما نؤمن به حقًا، يكبر في صمتٍ يشبه الدعاء، ويعيش ما دمنا نحمله دون شكوى.

فالحلم، حين يمرّ بنا، لا يطلب أن نكمله، بل أن نؤمن أنه وُجد — وأن وجوده وحده، كافٍ ليذكّرنا أننا أحياء.

 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بلاغة القيادة: قراءة أدبية في خطب الملك سلمان بن عبد العزيز

  في رحاب الكلمة والسيادة   في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدّل فيه المواقف، تبقى بعض الأصوات شاهدة على اتزان الرؤية وعمق الفكرة. هناك خط...