الاعتزال: عودة
الإنسان إلى ذاته
"حين يصبح الصمتُ مقاومة، والوحدةُ
خلاصًا كريمًا"
بينما يظلّ الاعتزال، في العقلية الجمعية للمجتمعات التي تُمجّد
الانتماء وتُدين التفرد، فعلًا يُستدعى له الشفقة أو تُلقى عليه تهمة النكران،
فإنه في جوهره ليس هروبًا من الآخرين، بل عودة هادئة إلى الذات، واستردادٌ لما
فُقد منها في ضجيج الجماعة. إنه ذلك الفعل الجريء الذي تُعلن فيه النفسُ سيادتها
على مساحاتها المصادرة، وتتنفّس هواءها النقي بعد طول اختناقٍ تحت وطأة التبعية
والخذلان. هناك، في عزلةٍ تشبه طُهر الولادة، يُسمع صوت الضمير الداخلي للمرة
الأولى بلا مقاطعة، وتُولد الكرامة من رحم الصمت.
وهذا الرفض الوجودي لا
يبقى مجرد فكرة، بل يتحول إلى فعل مصيري.
في
مساءٍ هادئ، وقفت أمام خزانتها، تطوي حقيبة صغيرة لا تحمل سوى ما يكفي
للنجاة.
أغلقت الباب خلفها دون ضجيج، وكأنها تُغلق فصلًا لا يُريد أن يُكتب بعد
الآن.
أطفأت هاتفها، لا هروبًا من العالم، بل استعادةً لحقها في الصمت.
لم تترك رسالة، ولم تطلب إذنًا.
كانت تلك اللحظة، بكل بساطتها، إعلانًا داخليًا: أن البقاء لم يعد
كرامة، وأن الاعتزال لم يكن هروبًا، بل استعادةً للنفس من بين أنقاض التمثيل.
ويتخذ هذا الإعلان أشكالًا
شتّى: قد يكون ابتعادًا عن علاقاتٍ تُمارَس فيها قسوة العاطفة وتجاهل الوجود، أو
توقفًا عن أداء أدوارٍ خدمية بلا تقدير ولا معنى، أو انسحابًا من طقوسٍ اجتماعيةٍ
تُكرّس الإنكار والتماثل القسري. في كل تلك الحالات، يكون الاعتزال هو أكثر
الأفعال صدقًا حين يُحاصر الإنسان بالزيف.
وعندما ننتقل إلى دائرة العاطفة، يصبح الاعتزال أكثر وجعًا، وأكثر
صفاءً في الوقت ذاته. فهنا لا يعني الانسحاب انتهاء الحب، بل انتهاء الوهم. حين
تتحوّل العلاقة إلى عبءٍ على الروح، ويُطلب من أحد الطرفين أن يخفي وجوده، أو ينكر
مشاعره، أو يرضى بأن يعيش في الظل بدلًا من النور، يصبح الاعتزال فعل كرامةٍ لا
بديل له.
إنه تطهيرٌ عاطفيّ، تُحرّر فيه النفس نفسها من وعودٍ مؤجلة، ومن
انتظارٍ بلا أفق، ومن حبٍّ لا يُعترف به. عندها تستعيد الذات سيادتها على وقتها
ومشاعرها وحدودها. فالحبّ الذي يُخجل أصحابه ليس حبًّا، والذي يُطلَب فيه الصمت
ليس حبًّا، والذي لا يُعلن إلا سرًّا هو وهمٌ متقن التنكّر. وفي وجه هذا الوهم،
يصبح الاعتزالُ أجمل ما يُقال: «أنا أحب، لكنني لن أُهان باسم الحب».
وهكذا يتجلّى الاعتزال، سواء من جور المنظومة أو من وهن العلاقة، كـ
ولادة ثانية للروح. لحظةٌ يعيد فيها الإنسان رسم حدوده، ويفصل بين ما يُغذّي روحه
وما يُنهكها، بين ما يُحتمل وما لا يُحتمل. إنه اختبارٌ للشجاعة الحقيقية، التي لا
تُقاس بالبقاء في المكان الخطأ، بل بالقدرة على قول «كفى»، وعلى مغادرة المسرح حين
يُسلب الدور، وعلى اختيار وحدةٍ كريمة على مشاركةٍ مُهينة.
فالاعتزال، في جوهره، قمة المقاومة الهادئة؛ لأنه يردّ إلى الإنسان
حقّه الأصيل في أن يكون، بكل كماله ونقصانه، دون إذنٍ من أحد، ودون حاجةٍ إلى
جمهورٍ يُصفّق.
الاعتزال.. حق سيادي لا يُطلب، بل يُمارَس.
في النهاية، ليس الاعتزال انقطاعًا عن العالم، بل عودة إلى النواة
الأولى فينا، حيث لا يُسمع سوى صوت القلب وهو يستعيد حقه في الهدوء. فحين يختار
الإنسان عزلته بوعي، فإنه لا يهرب من الحياة، بل يعود ليحياها بشروطه هو.
جهاد غريب
نوفمبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق