الأحد، 9 نوفمبر 2025

بلاغة القيادة: قراءة أدبية في خطب الملك سلمان بن عبد العزيز

 

في رحاب الكلمة والسيادة

 

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدّل فيه المواقف، تبقى بعض الأصوات شاهدة على اتزان الرؤية وعمق الفكرة. هناك خطاباتٌ لا تُلقى لمجرد التسجيل في ذاكرة المناسبات، بل تُكتب لتبقى في ذاكرة الشعوب. من بين تلك الخطابات، تتفرّد كلمات الملك سلمان بن عبد العزيز بما تحمله من حكمة القيادة وصدق المشاعر، فهي ليست مجرد إعلانٍ سياسي، بل لغة دولةٍ تعرف متى تصمت ومتى تتكلم، ومتى تجعل من البلاغة مرآةً لهيبة الموقف وإنسانيته معًا.

هنا قراءةٌ أدبية تحاول أن تقترب من جوهر هذا الخطاب، كما رآه الدكتور محمد بن عبد العزيز الفيصل، لتكشف أبعاد القوة والجمال في لغة الملك، ورمزية الحضور في كلماته.

 

 

بلاغة القيادة: قراءة أدبية في خطب الملك سلمان بن عبد العزيز

 

"تحليل لغوي ورؤيوي في خطاب السيادة والتوازن الوطني"

 




الخطاب الذي يجمع القلوب قبل العقول

 

في فضاءٍ يزدحم بالخطابات السياسية، تبرز خطب الملك سلمان بن عبد العزيز بوصفها نموذجًا فريدًا للخطاب الذي يجمع بين القوة والوضوح، بين الهيبة والبساطة، في آنٍ واحد.

يرى الدكتور محمد بن عبد العزيز الفيصل – أستاذ الأدب والنقد في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – أن هذا الخطاب لا يُقرأ فحسب، بل يُستشعر، لأنه يصل إلى القلوب قبل أن يخاطب العقول.

 

يصف الفيصل هذا النمط من البلاغة بـ "السهل الممتنع"، ذلك النوع النادر من الخطاب الذي يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه في جوهره مشغول بدقةٍ عالية، لا يتقنها إلا القلة من صنّاع القول وكتّاب الدولة.

فهو خطابٌ موجه إلى جمهورين متمايزين: أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية، والعالم الخارجي من قادة وسياسيين ومفكرين ومتابعين للشأن السعودي. ومن هنا تأتي صعوبة هذا الخطاب وجماله في الوقت نفسه؛ إذ يجمع بين التواصل المحلي والتأثير الدولي بلغة واحدة ووجهٍ واحد.

 

الاختيار الذي تفرضه التجربة

 

عن سبب اختياره لخطب الملك سلمان موضوعًا للدراسة والتحليل، يشير الدكتور الفيصل إلى دافعين رئيسيين:

الأول علمي، يرتبط بقوة الخطاب نفسه وما يحمله من رمزية لغوية وسياسية ودلالات تعكس نضج التجربة القيادية السعودية،

والثاني وطني وإنساني، ينبع من معرفته الشخصية والعميقة بشخصية الملك سلمان، منذ أن كان أميرًا لمنطقة الرياض، ثم وزيرًا للدفاع، فوليًا للعهد، وأخيرًا ملكًا للبلاد.

 

يقول الفيصل إنه تشرف بحضور مجالس الملك في مراحل مختلفة، وكان شاهدًا على أسلوبه في الحوار مع المواطنين واستماعه المتأني لهم، وهو ما منحه فرصة نادرة لالتقاط جوهر الخطاب الإنساني الذي يميّز القيادة السعودية.

 

 

الثوابت الوطنية… منطلق التغيير لا عائق أمامه

 

يؤكد الفيصل أن الثوابت الوطنية في الفكر السعودي ليست حدودًا تمنع التغيير، بل جذورًا تُغذي التطوير.

فالقيادة – ممثلة في الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – تنطلق من هذه الثوابت نحو رؤى متجددة، تُترجم اليوم في رؤية المملكة 2030 التي جعلت من التغيير وسيلةً لتعزيز الثوابت، لا تجاوزها.

 

وهنا يتجلى التوازن الدقيق الذي يحققه الخطاب الملكي: إذ يحافظ على المبدأ، ويحتضن التحديث، في وقتٍ تشهد فيه المملكة نقلة نوعية في مجالات التعليم، والتقنية، والإدارة، حتى أصبحت خلال أقل من عقد في مصاف الدول المتقدمة.

فالخطاب لا يفرض التغيير، بل يشرحه ويُبرره ويؤنسنه، ليجعل المواطن جزءًا من مشروعه لا متلقيًا له.

 

 

ثقافة ملك… ومعرفة تتكلم

 

يلفت الدكتور الفيصل إلى جانبٍ قلّما يُذكر في التحليل السياسي، وهو أن ثقافة القائد هي التي تصنع بلاغة خطابه.

الملك سلمان، كما يصفه، رجل يقرأ بنهم، واسع الاطلاع، وله فضل كبير على الباحثين والمؤرخين.

فهو مؤسس دارة الملك عبد العزيز، وصاحب أكبر مكتبة خاصة لزعيم عربي تضم أكثر من مليون وستمائة ألف عنوان، كما أشار الباحث الدكتور راشد العساكر.

 

هذه الخلفية المعرفية جعلت من خطاب الملك سلمان خطابًا مثقفًا واعيًا، منفتحًا على التاريخ ومتصلًا بالحاضر، متوازنًا بين الرؤية الواقعية والعمق الإنساني.

ولهذا، لا يمكن فصل مضمون الخطاب عن صاحبه؛ لأن الفكر والثقافة والسياسة تتداخل في شخصه تداخلًا فريدًا يجعل من كل خطابٍ حدثًا لغويًا بقدر ما هو سياسي.

 

 

الخطاب الملكي… ميدان مفتوح للدراسة

 

يرى الدكتور الفيصل أن دراسة الخطاب الملكي – في شقّيه المتعلق بالملك سلمان وولي عهده – ما زالت في بداياتها الأكاديمية، وأن هذا الميدان مفتوح أمام الباحثين لفهم لغة القيادة السعودية ومضامينها الرمزية.

فالخطب التي يلقيها الملك ليست نصوصًا بروتوكولية، بل وثائق فكرية وتاريخية تعكس مسيرة أكثر من نصف قرن من العمل السياسي والثقافي والفكري.

 

ويختم الدكتور الفيصل حديثه بتأكيد أن خطاب الملك سلمان ليس مجرد تواصل رسمي، بل هو نموذج لقيادةٍ تعرف لغتها، وتُتقن بناء الكلمة كما تُتقن بناء الدولة.

 

في هذه المرحلة السعودية الفارقة، تتجدد بلاغة الخطاب كما تتجدد ملامح الدولة. فالكلمة التي ينطقها القائد ليست مجرد إعلانٍ سياسي، بل إيقاعٌ يتناغم مع نبض التحول الذي تعيشه البلاد. في خطاب الملك سلمان تتجسد روح الرؤية لا بوصفها مشروعًا تنمويًا فحسب، بل حالة وعيٍ وطنيٍّ ناضجٍ يُعيد تعريف العلاقة بين القيادة والشعب، بين التاريخ والمستقبل. وهكذا تصبح البلاغة فعلًا من أفعال النهضة، ويغدو الخطاب مرآةً لوطنٍ يعرف أن الكلمة هي أول حدود السيادة، وآخر أسرار القوة.

 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بلاغة القيادة: قراءة أدبية في خطب الملك سلمان بن عبد العزيز

  في رحاب الكلمة والسيادة   في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدّل فيه المواقف، تبقى بعض الأصوات شاهدة على اتزان الرؤية وعمق الفكرة. هناك خط...