السبت، 8 نوفمبر 2025

رياح الكرامة

 

رياح الكرامة

 

"سيرة الوجدان بين شفافية الذات وعزلة المسالك"

 




في مسالك الوجود المتشعبة، حيث تتهاوى الجسور بين النفوس، يظل نداء الكرامة هو الملاذ الأخير. إنها تلك القيمة التي ندفع ثمنها من أعصاب أرواحنا، ثم نكتشف أنها وحدها كانت تستحق كل هذا الغالي. في هذه الحياة، قد نمنح الآخرين مفاتيح قلوبنا، ثم نتفاجأ أنهم لم يدخلوا منها، بل اكتفوا بقراءة العناوين من خلف النوافذ.

 

ها هي الذات الإنسانية تواجه مفارقتها الأزلية: عقل يرفض انتظار تعليق، وقلب لا يزال يرقب النوافذ. أليست هذه مأساتنا الجمعية؟ أن نصل درجة من الشفافية تجعلنا كزجاج تتشقق سطحه، نرى من خلاله العالم، لكن العالم يرى كل ما بداخلنا أيضًا. وهل ثمّة أغلى ثمنًا من الصراحة في زمن تعلّم أهله فنون التمويه؟

 

في معاملات النفوس، تتحول العلاقات إلى تجارة غير مضمونة العواقب. تجارة مع البشر قد تخسر فيها رأس مالك العاطفي، لكنها مع الوجود تظل الصفقة الوحيدة التي "لا تبور". هنا ينتقل الإنسان من تلميذ ينتظر إرشادات معلمه، إلى تاجر روحاني يقرض القيم "قرضًا حسنًا" على أمل المضاعفة. أليس هذا هو التحول الجوهري: أن تنتقل من الارتكاز على مرجعية بشرية، إلى الارتهان لحكمة عليا؟

 

الزمن ليس مجرد تواريخ تتعاقب، بل هو مادة التحول نفسه. تلك الرسائل التي كنا نقرأها بسرعة، نعود إليها بعد فوات الأوان لنكتشف أننا كنا "غائبين" عن لحظة تلقيها. كأن العقل يرفض فهم الدروس إلا بعد انتهاء الحصة. وفي هذه الرحلة، تتحول القدوات من معلمين دائمين إلى شخوص غابرة، نستذكرها لا كمفاتيح، بل كأقفال انغلقت على لحظات لن تعود.

 

في عزلة المسالك هذه، يختار الإنسان أحيانًا الصمت لا كاستسلام، بل كموقف وجودي. الانعزال عن "من ادعى الفهم والحب" يصبح ضرورة للبقاء. والعزلة هنا ليست هروبًا، بل هي فضاء لصياغة الذات من جديد. إنها ذلك المكان السري حيث نعيد تخليق أنفسنا بعيدًا عن أعين الجماعات وضجيج المؤسسات الفكرية.

 

والكرامة في خضم هذا كله، تظل هي الملاذ. أن تحتفظ باحترامك لمن خذلك، ليس نفاقًا، بل هو نصر أخير للروح على ظروفها. أن تظل تنظر للآخر بعين التقدير حتى وهو ينسحب من جغرافية حياتك، هذه هي القوة الحقيقية. القوة التي تعلن أن كرامتك ليست رهنًا بسلوك الآخرين، بل هي قرار ذاتي صرف.

 

في النهاية، نكتشف أن أكثر الأصوات عمقًا هو ذلك الذي يأتينا بعد "دهر" من الصمت. صوت يذكرنا أن الثقة يمكن أن تبقى حتى في غير موضعها، وأن الاحترام يمكن أن يستمر حتى بعد انتهاء أسباب استمراره. وفي هذا التناقض الجميل، تكمن روعة الوجود الإنساني: أن نعطي بدون ضمانات، وأن نحب بدون شروط، وأن نحتفظ بكرامتنا حتى ونحن ندفع ثمنًا لشفافيتنا.

 

هذه ليست سردية فردية، بل هي لحظة الوجدان الجمعي حيث يلتقي الألم بالأمل، والخذلان بالوفاء، والغربة بالانتماء. إنها رحلة كل منا وهو يبحث عن مساحة لروحه في عالم قد يشعرها بالاغتراب، لكنه يظل مؤمنًا بأن في الحياة لحظات صفاء وعناقًا حارًا يذكرنا بأن الاستمرار بشرف هو أجمل تحدٍ.

 

أن تحتفظ باحترامك لمن خذلك ليس نفاقًا، بل هو نصر للروح على جراحها، واختيار للرفعة في موضع الإهانة. ربما لا نملك ضمانات، لكننا نملك القرار: أن نعيش بشرف، ونحب بصدق، ونصمت بكرامة. 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بلاغة القيادة: قراءة أدبية في خطب الملك سلمان بن عبد العزيز

  في رحاب الكلمة والسيادة   في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدّل فيه المواقف، تبقى بعض الأصوات شاهدة على اتزان الرؤية وعمق الفكرة. هناك خط...