مرايا مكسورة: حكايات الوجوه
المتشظية
"أيُّنا أنا، بين نداءات القطع
الزجاجية؟"
وقفوا صفًا واحدًا، واجهةً لجدارٍ من الصمت المُركَّب. لم يكن جدارًا
بالمعنى المألوف، بل كان نسيجًا من المرايا المُحطَّمة، كلُّ قطعةٍ منها تشبه
جرحًا متجمِّدًا في الهواء، يحمل في أعماقه انعكاسًا مشوَّهًا للحقيقة. كان
الحُطام برمّته يشعُّ بضوءٍ بارد، كأنه قمرٌ سُحِقَ على صخرةِ الوجود.
كان كلُّ شخصٍ منهم يحدِّق في القطعة التي تواجهه، ليجدَ وجهًا يعرفه،
لكنه ليس هو. حاجبان أكثر حِدّة، نظرةٌ أقسى، ابتسامةٌ تحمل ظلَّ غدر، أو عينان تفيضان
ببراءةٍ مفقودة. كانت التشابهاتُ تثيرُ الحيرةَ والرعب؛ فكلُّ انعكاسٍ كان يشبههم
"قليلًا"، كنسخةٍ مسروقة من حياةٍ أخرى لم يعيشوها، أو كإمكانيةٍ كامنة
في أعماقهم، جُرِحت فأُطلِقت من عقالها.
أصواتُ طقطقةٍ خفيفة تتصاعد من بين
الشقوق، كهمساتٍ بالغةِ القِدَم. لم تكن ناتجةً عن تحطُّمٍ جديد، بل كأنها حوارٌ
قديم يدور بين القطع المتناثرة. كلُّ قطعةٍ تُحدِّث الأخرى عمّا تراه، فتصبح
الغرفةُ بمثابة جوقةً من الأصداء المتضاربة، كلٌّ منها يروي حكايةَ
"هوية" مختلفة.
ووسط هذه الفوضى البصرية، كانت إحدى القطع تختلس النظرَ إلى
عالمٍ آخر. لم تكن تعكس الوجوهَ الواقفة أمامها، بل كانت كالنافذة: تُظهر غابةً
مظلمة، أو محيطًا هائجًا، أو غرفةً طفولية مهجورة. كانت تشير إلى أن هذا التشتت
ليس حبيسَ هذه القاعة، بل هو نافذةٌ على أبعادٍ موازية للذات، على ذكرياتٍ مطمورة،
أو على فُصومٍ روحيةٍ لم تُشفَ بعد.
البرودةُ الخفيفة التي تنبعث من الجدار
كانت تلتفّ حولهم كذكرياتٍ مجمَّدة. كانوا يشعرون بها تلامس وجوههم قبل أن تلمسها
أنظارهم، كأن المرايا لا تحتفظ بالصور فحسب، بل بدرجة حرارة اللحظات التي وُثِّقت
فيها – لحظاتُ فرحٍ بائد، أو خيبةٍ متجمِّدة، أو حبٍّ فقد دفؤه.
والمفارقة الأعمق كانت أن كلَّ شخصٍ يرى شيئًا مختلفًا. ما يراه
الواحدُ في انعكاسه لا يراه جاره في انعكاسه هو. فتح هذا البابَ على سؤال الهوية
الجمعية: أيُّنا يملك "النحن" الحقيقية؟ هل نحن مجرد مجموعِ ما يراه
الآخرون فينا؟ أم أننا، في الصميم، ذلك الوجه الغريب الذي لا يراه سوى انعكاسٌ
وحيد في مرآةٍ مكسورة؟
كانت الانعكاسات تتغيّر وتتلاشى فجأة. فوجهٌ كان واضحًا يتحوّل
إلى ضباب، وآخر كان باهتًا يلمع فجأة كالبرق. كان ذلك يزيد من الغموض، مؤكِّدًا أن
هذه المرايا لا تعكس حاضرًا ثابتًا، بل ممكناتٍ متغيّرة، وأحقابًا من النفس تتصارع
على الظهور.
وفي ذروة هذا التيه، أدركوا أن كلَّ انكسارٍ فيهم هو جزءٌ من مرآةٍ
أكبر. هذه القطع المحطَّمة ليست نهاية العالم، بل هي أجزاءٌ من لوحةٍ كونية.
الأنا المُشتَّتة، الذات الممزَّقة، الإحساس بعدم الاتساق – كل ذلك هو عبارة عن
رحلة جمع. سيجمعون هذه القطع ذات يوم، ليس لإعادة تركيب المرآة الأصلية (فذلك مستحيلٌ)،
بل لصنع فسيفساء جديدة، فريدة، تكون صورتهم "الحقيقية" – ليست الصورة
النقية الواحدة، بل تركيب كل هذه الوجوه، بجمالها وقبحها، بقوتها وضعفها.
الوجهُ الحقيقي ليس ذلك الذي كان قبل الكسر، بل هو ذلك الذي سيُخلَق من
رحم الكسر نفسه. الذات ليست جوهرًا ثابتًا نبحث عنه، بل هي عمليةُ جمعٍ دائمة
لأجزائنا المتشظية، تحت ضوء الوعي الذي يحوِّل الزجاجَ المحطَّم إلى مجوهرات.
جهاد غريب
نوفمبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق