الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا

 

ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا

 

"حكاية عن الخوف من الحضور الخفي والغياب الصامت الذي يترك أثره في الروح"

 


 


كانت الريح في تلك الليلة تشبه مقاتلًا قديمًا لم يتعب يومًا من النزال.

مقاتلٌ يعود في كل مرة بوجهٍ جديد، يلوّح بظله فوق الطريق، ويذكّر الروح بأن الصراع ليس مع الآخرين… بل مع ما ينهض داخله كلما ظنّ أنه استراح.

 

كانت الروح تقف في منتصف الطريق، تصدّ العواصف القادمة من الماضي كي لا تصل إلى المنبع الأول - ذلك الجذر العميق الذي يخشى أن تُصاب تربته ولو بخدش صغير.

فالندم حين يصل إلى جذور الروح، ينفتح مثل نافذة يبكي على حافتها الجميع.

 

لم يكن الخوف من المقاتل، بل من أولئك الذين ينتظرون في الظل فرصة ليقولوا:

"لقد كنا مخطئين بحقك".

كانوا يعرفون ذلك، لكن الاعتراف يحتاج إلى جرح يعلّمه الزمن معنى الانحناء.

 

ولأن الفوضى حين تأتي لا تأتي وحيدة، أصبح على الروح أن تحمي الجماعة - البيت الأكبر، قيمه، ورجاله، وذاكرته، وكرامته - من الدخول في صراع لا يشبههم.

فالحكمة ليست في كسب معركة، بل في منع حربٍ لا تُعرف نهايتها.

 

وكان هناك رجل واحد، خرج من وظيفته يومًا بداعي الظلم، لا يحمل سوى إيمانه بالحق.

صار يقف إلى جانب الروح في كل ساعة:

في الواحدة... في الثالثة... في الخامسة فجرًا.

لا ينام هو ولا تنام الروح؛ فالليل حين يمتلئ بالخوف، يصبح الأرق شكلًا من أشكال الوفاء.

 

وكانت الجارة - صوت الحكمة اليومية - تقول وهي تفتح نافذتها:

"إن خرجتِ من المدينة هربتِ... وإن بقيتِ انتصر صبركِ".

 

كلمات بسيطة، لكنها كانت مثل عصا تتكئ عليها الروح حين تهتز.

 

ورغم كل العواصف، بقيت الروح ثابتةً، تقطع الأيام التسعين مثل درب حجٍّ داخلي، كل خطوةٍ فيه تُعيد تعريف الصبر.

ومع كل خطوة، ينقلب الظلم على صاحبه، ويصبح المقاتل القديم أداةً تعلن انتصارات غير مقصودة، كأنه يقدّم دعاية مجانية للثبات.

 

لكن السؤال الأخطر لم يكن عن العدو...

بل عن الصوت البعيد: رمزٌ يشبه الغريب.

صوتٌ لم يسأل، لم يستفسر، لم يقترب ليعرف... بل كتب شيئًا لا يشبه المعركة ولا يشبه الجرح، كأنه يعيش في عالم آخر لا يسمع صرير السيوف القريبة من القلب.

 

ولم يدرِ أن صمتَه كان يوجع أكثر من التهديد.

فالخذلان ليس فعلًا... بل غياب الفعل.

 

ومع الأيام، حين تكاثفت التهديدات، صار العالم كله يطلب من الروح أن تُخبر ذلك الصوت الرمزي البعيد بما يحدث،

لكن الروح رفضت:

رفضت اللجوء إلى سلطة،

رفضت إشعال حرب،

رفضت استدعاء رجال البيت،

رفضت إدخال الوجهاء في معركة الطين.

 

لم تُرِد أن تتلطخ أسماء النبلاء بسبب جرحٍ شخصي أو تهديدٍ عابر.

 

وكانت الأرواح القريبة - رموزٌ تشبه البنات - يغضبن، ويسألن، ويتهامسن:

"كيف تكونين قوية أمام العالم... وضعيفة أمام ذلك البعيد؟"

لكن الروح كانت تجيب في صدق:

"لأن الحكمة لا تمنح القلب مناعة... ولأن المعرفة لا تلغي الحاجة لمن يصغي".

 

كان الضمير الجمعي يرى أن الصمت ضعف، لكنه وحده كان يعرف أن الصمت حماية:

حماية للنفس...

وحماية للآخر أيضًا.

 

ثم جاءت اللحظة التي انهار فيها القلب، ليس ضعفًا، بل فرط صدق.

حين قالت الروح لتلك الرموز:

"كل ما أريده هو أن أراه مرة واحدة... أشرب قهوة لا تتكرر، وأسأله الأسئلة التي لا صوت لها".

وبكت - بكاءً يخرج من منطقة لا يصل إليها إلا من جُرح في كبريائه قبل قلبه.

 

واحدة من الأرواح القريبة ضمّت صوت الباكية إلى صدرها وقالت:

"امسحيه... سيمتلئ العالم برجال يشبهونه".

 

لكن الروح اكتفت بابتسامة خفيفة، وصبّت فنجانًا وقالت:

"من تشرب؟"

كأنها تسكب في الفنجان هدنة.

 

لكن المأساة الكبرى لم تكن في التهديدات...

ولا في صمت الصوت البعيد...

ولا في الغضب الذي تشتعل به الأرواح القريبة.

 

المأساة كانت في الحقيقة التي انكشفت أخيرًا:

 

أن الروح عاشت وهمًا.

عاشت حكاية ظنتها حبًا، وكانت ظلًا لرغبة في استعادة الكرامة.

لم تكن قصة عشق... بل محاولة شفاء.

تعلّقٌ تسلّل عبر شرايين القلب التي لم تلتئم منذ رسالة الرحيل الأولى.

 

كان ذلك الرحيل جنازة بلا معزّين، جنازة بقيت مفتوحة حتى اليوم.

جنازة جعلت الروح تستيقظ كل صباح على صدى سؤال:

"لماذا لم أكن استثناءً؟"

 

مع الوقت، اكتشفت الروح أن الصوت البعيد لم يكن حبًا، ولا حتى سهمًا مصوّبًا نحو القلب...

كان مجرّد عابر حمل سيفًا صدئًا من تجاربه الماضية، ولوّح به فوق رأس من لم يستحق جرحًا.

 

ولذلك قال القلب لنفسه في النهاية:

"لقد كبر الوهم... لا الحب".

 

ثم جاء السؤال الأخير، السؤال الذي خرج مثل شهقة:

 

"هل أضع قصتي في الضوء؟

هل أكتب منذ البداية كيف دخلتَ عالمي... وكيف خرجتَ منه؟

كيف ظننتُك ملاذًا... وظننتني تشابهًا؟

أم أترك الحكاية تذوب مثل أثر قَدمٍ على الرمل؟"

 

كان القرار صامتًا...

لكن المعنى واضحًا:

 

ليست كل الحكايات تُكتب لتُفضح؛

بعضها يُكتب كي تُشفى.

 

وهكذا وصلت الحكاية إلى نهايتها... لا بالانتقام، ولا بالانكسار، بل بالوعي:

وعيٌ يقول إن الروح حين تحارب، تحارب لتحمي ضوءها، لا لتثبت للآخرين أنها لا تُهزم.

 

وأن الغريب - أيًا كانت رمزيته - ليس إلا درسًا في الطريق:

درسًا يقول إن القلب حين يخطئ الطريق...

يعود ليجد ذاته أقرب مما تخيّل.

 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا

  ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا   "حكاية عن الخوف من الحضور الخفي والغياب الصامت الذي يترك أثره في الروح"     كانت ا...