عدالة الدوائر: شِرْعَة الحجر والنور
"سُبْحةُ الأرواح على مِنْضَدِ الزمن"
كان يحملُ على ظلِّه حِملًا من حجارةٍ مضيئة، كأنها كواكبُ أُخِذَت من
مجراتٍ سحيقة وحُبِسَت في قيودِ الصخر. لم تكن أثقالًا عادية، بل كانت أوزارًا من
نورٍ متجمِّد، تثقلُ كاهله بينما تُنيرُ دربَهُ في آن. كان يسيرُ في حلقةٍ مفرغةٍ
حول نفسه، أو حول فكرةٍ عن نفسه، لا فرق. تحت قدميه، كانت الأرضُ تدورُ كأسطوانةٍ
قديمة، تحفرُ نفسَ المسار في ترابِ الوجود.
وفي السماء، كانت دوائرُ الضوء تلمع. دوائرٌ شفافةٌ متداخلة، كفقاعاتِ
صابونٍ كونية، كلٌّ منها تمثّلُ حياةً عاشها، أو حياةً سيعيشها، أو ربما حياةً
يحلمُ بأن يعيشها. كانت تتداخلُ أحيانًا، فيلمعُ منها بريقٌ عابرٌ، وميضٌ تنويريٌّ
يملأُ فضاءه بلحظةٍ من الفهمِ المطلق، ثم لا تلبثُ أن تعودَ إلى عزلتها، تاركةً
إيّاه في ظلمةِ الحيرةِ الحلوة.
كان صدى خطواته هو الموسيقى الوحيدة في ذلك الصمت الرهيب. صوتٌ
رتيبٌ يترددُ في أذنيه، ليس تكرارًا فارغًا، بل تأكيدٌ على قدسيّةِ الرحلة. كلُّ
خطوةٍ كانت تسأل: "أما زلت هنا؟" وكلُّ صدى كان يجيب: "نعم، لا
تزال في الطريق". في هذا التكرارِ كان يوجدُ اختلافٌ طفيف، كالنغماتِ في
مقطوعةٍ واحدةٍ، تُعزفُ كلَّ مرةٍ بإحساسٍ مختلف.
وتلك الأوزار الحجرية على ظلِّه… كانت كائنًا حيًا يتنفسُ معه.
مع كلِّ دورة، كان لونُها يتغيرُ بتؤدة. من الأزرقِ الباردِ الذي يشبهُ برودةَ
الأسئلة الأولى، إلى البنفسجيِ الحزينِ الذي يعبقُ برائحةِ الفقدِ والتعلم، وصولًا
إلى الذهبيِ الدافئ، لونِ الحكمةِ التي تُشرقُ من الداخل. كان الثقلُ نفسه، لكنَّ
طبيعته كانت تتبدل. أدركَ، في ومضةٍ من ومضاتِ الدوائر العلوية، أن ثقلَهُ
اليوم هو حكمةُ غدِه. وأن هذا الألمَ الذي يشُقُّ كتفيه ليس عقابًا، بل هو
ثمنُ الاستثمارِ في رحلةٍ أبديةٍ نحو نورٍ ما، لا يعرفُه بعد، لكنَّ قلبه يتوقُ
إليه.
في مسارِه، كانت تظهرُ له رموزٌ خفيفة. زهرةٌ تنبتُ فجأةً في
العراء، حجرٌ يأخذُ شكلَ قلبٍ مكسور، طائرٌ يطيرُ في اتجاهٍ معاكسٍ للريح. كانت
علاماتٍ عابرة، كأنما كائنٌ خفيٌّ يضعُها على طريقِ الحكمة لتخفيفِ وطأةِ الوحدة.
كان يلتقطُها بنظراته، فيخزُنُها في ذاكرته كوقودٍ للجولاتِ القادمة.
وأحيانًا، عندما تتداخلُ دوائرُ النور في السماء، كان يسمعُ أصواتًا.
لم تكن كلماتٍ واضحة، بل رنينًا شفيفًا، كأجراسِ بلورٍ تهتزُّ في عالمٍ مواز. كانت
رسائلَ من حيواتٍ ماضية، أو مستقبلية، تُهمسُ له بأن كلَّ ما يعيشُه الآن قد
سُبِقَ اختباره، وكلُّ ما سيأتي قد وُعِدَ به. كان الصوتُ يذكرُه بأنه ليس وحيدًا
في هذه الحلقة، بل هو جزءٌ من سُبحةٍ وجودية، كلُّ حبةٍ فيها هي "هو" في
مرحلةٍ من مراحلِ نضجه.
وفي لحظةِ استرخاء نادرة، توقفَ عن المشي. نظرَ إلى ظلِّه المحمَّلِ
بالحجارةِ المضيئة، ثم نظرَ إلى الأعلى، إلى دوائرِ الضوءِ التي تتراقصُ ككائناتٍ
فرحة. ضحك.
أدركَ أن الحلقةَ المفرغة كانت وهمًا. لم يكن يسيرُ في دائرة،
بل كان يصعدُ في لولب. كلُّ دورةٍ كانت ترفعُه درجةً أعلى، أقربَ إلى فهمِ تلك
الدوائرِ العلوية. الأوزارُ لم تكن عقابًا، بل كانت أدواتِ رؤية. والطريقُ لم يكن
مغلقًا، بل كان متعرجًا نحو الداخل.
العدالة لم تكن في الوصول، بل في فعل
السير ذاته. في استحقاقِ كلِّ حجرٍ يحمله، وفي جدارةِ كلِّ ومضةٍ تنيرُ له.
الدوائرُ في السماءِ كانت انعكاسًا للدوائرِ في روحه. هو السالكُ والطريق، هو
الحاملُ والحِمل، هو السؤالُ والجوابُ في آن.
وهكذا، واصلَ سيره، والآن بخطى أرسخ. عالِمًا أن كلَّ ثقلٍ يزيدُ
نورَه، وكلَّ خطوةٍ تخلقُ دوائرَ جديدةً في سماءِ كينونته. الرحلةُ لم تكن للخلاص
من الأوزار، بل لتحويلِها إلى نورٍ صافٍ… ينير، في النهاية، الحلقةَ كلَّها.
جهاد غريب
نوفمبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق