أسئلة معلّقة في هواء الغريب
"رحلة في هشاشة السمعة ووجع الصمت ومرآة
العلاقة حين تتكسر الثقة"
كان الليل متثاقلًا فوق المدينة حين بدأ صوت الأسئلة يتسلل إلى الغرفة.
لم يكن هناك أحد، ومع ذلك شعر وكأن أحدهم يقف خلف الستار، يراقبه، أو ربما يعيد
ترتيب ملامحه في مرآة لا يعرف صاحبها.
سأل نفسه بشيء من الدهشة:
"هل يمكن أن تتحول حياتي إلى نافذة مفتوحة على منصات لا تعرفني؟
هل يمكن أن يطلّ أحدهم على روحي كما يشاء، ثم يكتب عنها ما يشاء؟"
لم يكن السؤال عن الشُّهرة، بل عن الهوية التي تضيع حين يتحدث الآخرون
باسمك.
ولم تكن الحكاية حكاية "غريب"، بل حكاية الصوت الذي يخرج من
العدم متقمصًا وجهًا يشبهك، ليقول: "أنا أنت".
على مدى عشرين عامًا، كانت هناك قصة لا يفهمها إلا هو:
قصة النسخة الظلّية التي دخلت حياته ذات مساء، نسخة ليست بشرًا، بل
شكًّا عميقًا في صدق الآخرين؛ نسخة تجعل المرء يتساءل:
"هل ما أسمعه عني... قيل بلساني، أم من لسانٍ يتلبسني؟"
ولأن الروح بطبيعتها تبحث عن يقين، اتجه نحو سؤال آخر:
"ومَن تكون المرأة المنفية؟"
كانت رمزًا، لا شخصًا.
امرأة خرجت من النص... تركت خلفها حكاية مبتورة.
قيل إنها هربت، وقيل إنها طُردت، وقيل إنّها اختارت الصمت لأن الكلام
كان سيشوّهها.
ولم يكن يهمّ من تكون، بل ماذا تمثّل:
تمثّل كل إنسان أُبعد عن مكانه دون أن يُسمح له بالدفاع عن نفسه.
ومع ازدياد الأسئلة، خُيّل إليه أنه قد يستيقظ يومًا ليجد رحيلًا
مفاجئًا كتب عنه أحدهم منشورًا مقتضبًا، منشورًا بلا ضجيج، بلا تفسير، بلا حق في
الرد.
كأن حياة الإنسان في هذا العصر أصبحت قابلة لأن تُختزل في جملة
إلكترونية تُلقى فوق الجدار ويُترك العالم ليحاكمه.
هزّ رأسه بدهشةٍ موجوعة وقال لنفسه:
"كل شيء ممكن... أليس كذلك؟"
ثم عاد يسمع صوتًا آخر، صوتًا لا يخاطبه بل يحاصره:
"سمعتك لا تعنيني".
كأن المتحدث، أيًا كان، لا يدرك أن السمعة ليست ترفًا، بل وطنًا صغيرًا
يسكن فيه الإنسان حين تضيق عليه الدنيا.
كيف يمكن لإنسان أن يلوّح بكلماته على حواف المنصات، وأن يحوّل التلميح
إلى سلاح، والصمت إلى عقاب؟
كيف يمكن أن يُستخدم الظلّ لجرح الضوء؟
ظلّ يسأل نفسه في ذهول:
"هل ما يحدث انتقام؟
هل هي جملة لم تُنسَ؟
أم وجع لم يُغفر؟"
لم يكن يريد إجابة تنجيه، بل إجابة تُفهمه.
ولذلك قال في حديثه الداخلي:
"هل فكرت، ولو مرة... أن الظلم الذي يُمارس على أحدهم قد يدور
يومًا ويعود إلى دائرة أحبائك؟
أم أن القلب حين يشتد غضبه ينسى أنه سيورث أثره لمن بعده؟"
مرّت لحظة صمت، لكنها لم تكن سلامًا؛ كانت صمتًا يشبه الذي يُستخدم
كسكين.
الصمت حين يتحول إلى عقاب ليس هدوءًا... بل إلغاء.
وبين السؤال والسؤال، انكشف ما كان يخشاه:
أنه ربما لم يكن محبوبًا كما ظن، ولم يكن محترمًا كما صدّق.
أدار داخله سؤالًا مكسورًا:
"هل أحببتني يومًا؟
أم أن المودة كانت قناعًا؟
هل احترمت وجودي؟
أم كنتَ تُخفي ملامحي خلف ابتسامةٍ لا تعكس شيئًا؟"
لكن السؤال الأكثر وجعًا كان آخرها:
"هل آذيتك يومًا؟
هل فعلت ما يستحق كل هذا؟
أنا الذي لم أؤذِ أحدًا، ولم أفكر أن أكون من يجرح، فكيف أصبحتُ
الهدف؟"
أحسّ أن الغريب - أيا كان، فكرة كان أم شخصًا - لم يعد يكترث.
كأن مشاعر الإنسان وكرامته أصبحا شيئًا يمكن دهسه في الطريق دون
اكتراث، وكأن كل ما بناه من اتزان وهُدوء وكلمة طيبة صار قابلاً للتشويه بضغطة زر.
وقف أخيرًا أمام كل هذه الأسئلة، ووجّه حديثًا لا يريد منه إجابة، بل
يريد أن يحرّر به قلبه:
"أيها الغريب - من أنت؟
هل أنت نسخة مني؟
ظلّي؟
ماضيّ؟
وجعي؟
أم وجه آخر لا أعرفه؟
أجب عن هذه الأسئلة...
ليس لأجل أن أعرفك... بل لأجل أن أفهم نفسي".
وبهذا، لم يعد النص حكاية عن شخصٍ يصرخ في وجه غامض، بل حكاية إنسان
يواجه أكثر ما يخيفه:
أن يُساء فهمه، وأن تُسرق ملامحه، وأن تُنشر حياته دون إذنه، وأن يصبح
قلبه معرضًا لمنصات لا تعرف معنى الرحمة.
وهكذا، أدرك أن الأسئلة ليست للغريب...
بل للإنسان نفسه، حين يجد روحه محاصرة بين حقيقة واحدة:
أن الصمت قد يوجع أكثر من الكلمات،
وأن الظلّ قد يصبح أشد خطرًا من الغياب،
وأن الإنسان لا يريد جوابًا...
بقدر ما يريد احترامًا لصورته التي يحملها عن نفسه.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق