الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

البحث عن الأصل: أنثولوجيا الظلال والحجارة الزجاجية

 

البحث عن الأصل: أنثولوجيا الظلال والحجارة الزجاجية

 

"كيف نعبر متاهةَ أنفسنا ونحن حَمَلةُ شظايا؟"

 


 


ساروا كالأطياف في قاعة الكون المضيئة. كانت المتاهةُ كلها من زجاجٍ صافٍ يرقبُ نفسه، أرضيتها وجدرانها وسقفها. تعكسُ أضواءً مبهرةً تدمي العين، وظلامًا دامسًا يبلعُ الأرواح، في آنٍ معًا. كان النورُ والظلمةُ يتصارعان في كل اتجاه، فتنكسرُ الألوانُ وينقلبُ الوهمُ حقيقةً، وتصبحُ الحقيقةُ سرابًا.

 

كانوا بشرًا شبهَ شفافين، ظلالًا واقفةً على حافة الفناء. في أيديهم، لم تكن مشاعلَ، بل قطعٌ صغيرة من مرايا مكسورة. يرفعونها فيوجّهونها هنا وهناك، محاولين اصطياد بصيص ضوء، أو كشف منعطف خطر. كلُّ قطعة مرآة كانت تروي قصةَ انكسار مختلف، وكلُّ انعكاس كان يزيد المتاهةَ تعقيدًا.

 

انعكاسات المرايا تكشفُ فجأةً وجوهًا مألوفة: أمٌ تبتسم، حبيبٌ يلوح، طفلٌ يبكي. لكنها تتلاشى بسرعة، كأنما الذاتُ تتجزأ وتعيدُ تشكيل نفسها في كل لحظة. يسأل الواحدُ نفسه: من أنا؟ هل أنا هذا الذي يحمل المرآة، أم أنا الوجه الذي يظهر فيها، أم أنا الفجوة بين الانكسارين؟

 

وفي زوايا المتاهة، كان همس خافت يتردد، كذبذبات ذاكرة بعيدة. كلماتٌ غير واضحة، لكنّ إيقاعها يحمل دفءً مفقودًا. أهي أصوات من ماضٍ غابر، أم وعود من مستقبلٍ منتظر، أم مجرد تموجات في الزجاج تختلط بأصوات أنفاسهم؟

 

كان الضوء الخافت يخدعهم أحيانًا. يلمع في نهاية ممر، فيسرعون نحوه، ليجدوه يكشف عن جدار مسدود. كان الأمل يتحول إلى حاجز، والحلم إلى نهاية مغلقة. كلُّ طريق يبدو سالكًا يقود إلى طريقين مسدودين، وكلُّ بصيرة تفتح أبوابًا من الحيرة.

 

قطرات الماء تتساقط ببطء من مكان مجهول. لا يعرفون إن كان سقف المتاهة يبكي عليهم، أم أنهم هم يذوبون ببطء. لكن الصدى الذي تخلقه كل قطرة يكسر صمت المتاهة لحظة، مذكرًا إياهم بأن الزمن لا يزال يجري، وأن الحياة لا تزال تنبض، حتى هنا، في قلب الضياع.

 

وبين الحين والآخر، يظهر ظلٌ واحدٌ لا يحمل مرآة. يداه خاليتان، لكن خطواته واثقة. لا يبحث عن انعكاس، ولا يخشى الظلام. إنه لا يرى الطريق، بل يحسّه. إنه رمز الحدس الذي يعبر من غير بوصلة، والإيمان الذي يسير من غير دليل. نظراته تقول: الأصل ليس مكانًا نصل إليه، بل هو حالة نعيشها. الطريق ليس خارجًا، بل هو قرار نتخذه في العمق.

 

وفي لحظة صفاء نادرة، بين انعكاسين، أدركوا أن طريق العودة إلى الذات يبدأ بخطوة شجاعة في متاهة الوجود. لا تبحث عن الباب، بل عن المشي. لا تبحث عن المرآة الكاملة، بل انظر إلى القطعة التي في يدك. انكسارك هذا هو بداية كمالك، وحيرتك هذه هي بذرة يقينك.

 

لن تتوقف عن البحث، لأن في البحث ذاته تجد نفسك. وفي كل منعطف، حتى لو كان مسدودًا، تترك الظل الذي كنتَه، وتولد من جديد.

 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا

  ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا   "حكاية عن الخوف من الحضور الخفي والغياب الصامت الذي يترك أثره في الروح"     كانت ا...