الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

حين يمتحننا الدرب... وتنهض الرموز لتقود الضوء

 

حين يمتحننا الدرب... وتنهض الرموز لتقود الضوء

 

"تأملات في معنى القيادة الداخلية حين يصمت العالم ويستيقظ الضمير"

 


 


كان الليل على وشك الانسحاب حين بقي حامل المشعل واقفًا عند حافة الطريق، يراقب المدينة التي أغلقت أبوابها واحدًا تلو الآخر. لم يكن ذلك المشهد غريبًا عليه؛ فقد اعتاد أن يرى الناس ينسحبون حين تشتد الرياح، وأن يسمع وقع خطواتهم وهي تهرب من المسؤوليات الكبيرة، كأنّها بوابات ثقيلة لا يقدر على فتحها إلا مَن يعرف معنى العهد.

 

لم يكن وحده تمامًا، فإلى جانبه كان يقف الرفيق الخفي، ذاك الصوت الذي لا يُرى، لكنه يحضر حين يتعب القلب. لم يكن رفيقًا من لحم ودم، بل ظلًّا من حكمة قديمة، يهمس له كلما اشتدّ عليه الحمل: "الطريق لا يُقاس بالرفاق، بل بثبات الخطوة".

 

كانت أمامهما سفينة قديمة رابضة عند حافة الميناء، سفينة لا أحد يريد قيادتها، كأنّها ميراث ثقيل يخشاه الجميع. اقترب منها حامِل المشعل، ولمس خشبها البالي، وقد أدرك في داخله أن هذه السفينة ليست مجرد مهمة، بل امتحان. كثيرون مرّوا من هنا، لكنهم تواروا في ظلالهم، تركوا السفينة تبحث عن ربانٍ يفهم أن القيادة ليست مجدًا، بل أمانة.

 

ومع أن المدينة كانت تعجّ بالوجوه، إلا أن كل بيت كان مغلقًا على عالمه. لا أحد يتفرغ لشيء أكبر من دوائر مصالحه. اكتشف حامل المشعل ذلك مرارًا، وكل مرة كان يظن فيها أن أحدهم سيشاركه حمل الطريق، كانت مرايا الليل تكشف له الحقيقة: أن أكثر ما يرهق الإنسان ليس الخذلان، بل حسن الظن.

 

ومع ذلك، لم يكن في قلبه مرارة، بل وعي جديد. كان يعرف أن العمل العظيم لا ينتظره الكثيرون، وأن قيمة الطريق لا تُقاس بمن يمشيه، بل بما يتركه من أثر.

 

في قلب هذا المشهد، ظهرت ظلال تتحرك خلف الستار: منافسات تتصادم، وقرارات تتغير قبل أن تستقر، وجدران صامتة من الأنظمة التي لا يمكن تجاوزها. كانت هذه الظلال تختبر صبره أكثر مما تختبر قدرته. لكن الرفيق الخفي همس له من جديد:

"بعض الجدران لا تُقتحم… بل تُلتفّ عليها بالصبر والذكاء".

 

لم يشعر باليأس يومًا، رغم أن ريحًا عاتية كانت تتعمد أن تطفئ مشعله. كان يعرف أن الطريق إلى النور يبدأ دائمًا من شقٍ صغيرٍ في جدار دامس، وأن الإنسان الذي يواصل البحث لا بد أن يجد نافذة تُفتح ولو بعد طول انتظار.

 

على مسافة غير بعيدة، كان يقف حارس النصوص القديمة، ذاك الذي يرمز إلى الحدود التي لا يمكن تجاوزها مهما اشتدت الرغبة. لم يكن عدوًا له، بل جزءًا من الرقصة الكونية بين الحرية والالتزام، بين الطموح والشرعية. فهم حامل المشعل أن الحكمة ليست في محاربة الجدران، بل في إدراك سبب وجودها.

 

ومع توالي الأيام، أدرك أن الطريق لم يُخلق ليقطعه هو وحده، لكنه وُضع هناك ليختبر عزيمته. تعلّمَ أن الاعتماد على الناس يشبه الاتكاء على غيمة: جميلة، لكنها لا تحمل أحدًا. وتعلّمَ أن ما يُنقذ الإنسان هو يده، وما يرفعه هو صبره، وما يفتح له الطريق هو يقينه بأن الخير لا يتأخر... بل يأتي حين يتهيأ له القلب.

 

تلك اللحظة التي أشرقت فيها نافذة الفجر كانت مختلفة. لم تكن شمسًا واضحة، بل خيطًا دقيقًا من الضوء، كإبرة تشقّ الليل بحذر. لكن حامل المشعل عرف أنه يكفي. الضوء لا يحتاج إلى كثرة، بل إلى قلب يرى.

 

أدار وجهه نحو السفينة، ولمس حافتها مرة أخرى. لم يسأل نفسه إن كان الطريق صعبًا، ولا إن كانت الرياح ستشتد. اكتفى بأن ينظر إلى الرفيق الخفي بجانبه، ثم قال بصوت يسمعه قلبه فقط:

 

"إذا كان الطريق يُبنى بخطوة، فسأكون الخطوة".

 

تحركت السفينة أخيرًا، ومع أول موجة، شعر أن هذا الامتحان لم يكن عن القيادة فقط، بل عن الصدق مع الذات، وعن الشجاعة التي تظهر حين يتخلّى الجميع، وعن الإيمان بأن المسار الذي يُضيئه صاحب مسؤولية، يبقى مضيئًا مهما طالت العتمة.

 

وفي نهاية الرحلة، لم يكن يهمّه من عاد ومن انسحب، ولا من همس ومن نافس. كان يعرف أن كل شيء يمضي، إلا أثر الإنسان حين يختار أن يكون صادقًا مع ما يؤمن به.

 

وهكذا رحل حامل المشعل في بحر لا يعرف نهايته، تاركًا وراءه رسالة واحدة للذين يجرّبون عبور الحياة بقلوب حيّة:

 

أن الطريق لا يمنح مجده لمن ينتظرون، بل لمن ينهضون.

وأن المسؤولية ليست عبئًا... بل علامة على أن القلب مُهيأ ليكون نورًا في زمن يحتاج إلى الضوء.

 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا

  ظلال الغريب... والوجه الذي يشبهنا   "حكاية عن الخوف من الحضور الخفي والغياب الصامت الذي يترك أثره في الروح"     كانت ا...