الحب والصداقة بين الخفاء والنور
"تأمل في العلاقات الإنسانية بين حكم
المجتمع وصدق المشاعر"
في عالم يفرض الواقع الاجتماعي شروطًا قاسية على العلاقات الإنسانية،
توجد مساحات عاطفية تُجبر على الاختباء في زوايا الخفاء. هذه العلاقات ليست محرّمة
بالمعنى الأخلاقي أو الديني، لكنها ضحية صورة نمطية يفرضها مجتمع يقدّس المألوف
ويخاف من المختلف. هي صداقات ومشاركات فكرية وروابط عاطفية تختار الصمت، لا لأنها
تخجل من نفسها، بل لأنها تخشى نظرة تُحوّل الصدق إلى تهمة، والإنسانية إلى جرمٍ
مستتر. وهكذا، تتحوّل تجربة روحية غنية إلى علاقة تُضطر إلى التخفي، وكأن الصدق
العاطفي أصبح جريمة في عصرٍ يكرّم المظاهر أكثر مما يقدّر القلوب.
يُقابل الحب الذي ينشأ عبر الشاشات بازدراء وسخرية، فيُوصف بالوهم أو
العبث. لكن هذا الحكم الجائر يتجاهل أن بعض هذه العلاقات تمتلك عمقًا لا تصل إليه
العلاقات التقليدية نفسها. ففي غياب المظاهر السطحية، يبرز جوهر الإنسان كما هو؛
روحٌ تبحث عن روحٍ تشبهها، وعقلٌ يجد صدى فكره في عقلٍ آخر. هناك، خلف الضوء
الأزرق للشاشة، تتجلى أحيانًا أصدق صور التوافق الروحي؛ توافق لا تحده المسافات،
ولا تلوّنه المصالح، ولا يزيفه المظهر. إنها روابط تنشأ من لغة الفكر والوجدان، لا
من لغة الجسد، وتقوم على فهمٍ حقيقي يتجاوز ما تراه العين إلى ما يشعر به القلب.
أما الصداقة بين الجنسين فتواجه اختبارًا أشد قسوة. فهي تُعتبر في عيون
المجتمع تهديدًا خفيًا للنظام الأخلاقي، وكأن النقاء لا يُمكن أن يقوم إلا بين
المتشابهين. تُجبر المرأة على إخفاء صداقاتها، ليس لأنها تُخالف قيمها، بل لأن
الشكوك المسبقة تُلاحقها حيثما وجدت. وهكذا تتحول النظرة المجتمعية إلى سجنٍ غير
مرئي يحرم الإنسان من علاقاتٍ صافية، قد تكون مصدر دعمٍ روحي ومعنوي لا يُعوّض.
ومع ذلك، لا يعني الدفاع عن شرعية هذه المشاعر تبرير أي تجاوزٍ أو
علاقةٍ تتنكر للضوابط الأخلاقية. بل هو دعوة إلى الإنصاف والتمييز بين المشاعر
الصادقة النقية التي تلتزم بالقيم، وتلك التي تُسيء باسم الحرية. فالنقاء الحقيقي
لا يكمن في إنكار العاطفة، بل في صدقها وشفافيتها. والحرية المسؤولة لا تعني كسر
الإطار، بل العيش داخله بوعيٍ ونيةٍ صافية.
في النهاية، ليست المشاعر النقية هي التي تستحق الخفاء، بل الأحكام
التي تسيّجها. ليست الحرية في هدم القيم، بل في أن نعيشها بصدق دون خوفٍ من
العيون. فالحب والصداقة، حين يولدان من التوافق الروحي، لا يهددان القيم، بل
يُعيدان إليها معناها الإنساني الأصيل.
المشاعر الصادقة لا تحتاج إلى إذنٍ لتزدهر، لأنها تُزهر من الداخل،
وتضيء حتى في أكثر زوايا الخفاء ظلمة.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق