الأحد، 26 أكتوبر 2025

سجل الألم الخافت: تراتيل الوجع الوريث

 

سجل الألم الخافت

تراتيل الوجع الوريث

 

"كتبت خريطتك على جلد القلب، فلا تمحُها... احتضنها"

 




جلس، كشجرة وحيدة في مدار الصمت.

كأنه يبحث عن خيطٍ يربط الطين بالضوء.

ليس حوله سوى ظله الطويل، يمدّ ذراعيه على الجدار كخيطٍ أسودٍ يخترق نسيج الضوء. 

 

كان الكرسي الذي يجلس عليه امتدادًا للأرض، كيانًا متجذرًا لا يُفصل عنها. لم يُصنع من خشب، بل نبت منها. جذورٌ من ألمٍ عتيق تمتدّ في أعماق التراب، ترتوي بعصارة الأجيال الماضية، وتنتصب حاملةً لهذا الجسد الواعي بثقله. 

هنا، عند هذه النقطة حيث يلتقي الجسم بعُمق الذات، كان الوجع لغة الأصل.

 

ومن صدره، تحت ضلوعٍ تحمل أزمنة غابرة، ينبثق نور خافت. ليس نور برقٍ يُبصر الحقيقة، بل نور قمرٍ غائب، يُنير مدافن الذكرى. 

كلما اشتدّ تلألؤ النور الداخلي، كلما أحسّ بتلطّفٍ غامض في حرارة الجو. نسمةٌ رقيقة تعانق جلده.

 

هي لمسة الغيب، وطاقة الحضور الغائب. كأن الأرواح تقترب لتستدفئ عند موقد حزنه هو، فتأخذ من حرارته وتبقي له البرد كهدية.

 

وبداخل ذلك النور الصادر من جمجمة الروح، تتشكّل الوجوه. وجوهٌ بلا أسماء، تحمل ملحمة الحزن في عيونها. 

كل وجهٍ يُفتح كبُرعمٍ في ليل. 

كل لحظةٍ تمرّ، تُعيد تشكيل تلك الوجوه. 

 

تُشرق عينٌ لحظةً واحدة، تنظر بحنينٍ يُثقب الزمن، ثم تُغمضها. كأن الذكرى تحنو لتقول جملةً، فتجد السكوت أبلغ منها، فترجع إلى صمتها الأبدي. 

كل طرفةٍ هي ومضةُ سؤالٍ وُلد ومات قبل أن يُنطق به.

 

وتملأ الغرفة رائحةٌ غريبة. ليست رائحة بخورٍ فحسب، بل عبق زمنٍ معتّق. رائحة أيامٍ دُفنت وبقي طيبها يتسرّب من شقوق الحاضر. 

تخالها نفس الأجداد وهم يمرّون خلال هذا النور، يُلقّمونه بقصاصات أحلامهم المحترقة.

 

وينساب مع النور صوت. لحنٌ حزين وهادئ، ليس له مصدر، كأنه دمعةٌ تتحوّل إلى نغم. 

هو صدى الأرواح الماضية، يُرنّم أغنيةً لم تُكتب كلماتها بعد. 

هو خطوطٌ على ماء، تأتي وتذهب، 

وفي الخلفية، كما لو أن الأرض نفسها تتنفس... صوتٌ لا يُسمع إلا حين يصمت كل شيء. 

 

وتتراقص على ذلك الجدار ظلالٌ خفيفة، كأنها أرواحٌ تحاول أن تكتب شيئًا ثم تتلاشى. 

وحين تصمت، تسمع رنين فراغك أنت.

 

لذلك... لا تهرب من وجعك. لا تطارد هذه الظلمة الداخلية. إحنِ عليه كما تُحاضن الأرض جذورها. 

هو ليس عدوًا، بل هو الخريطة الأخيرة.

 

الخريطة التي ورثتها عن أجداد أرواحك، المخطوطة بدمع الأمس وأمل الغد. 

في احتضانك لهذا الألم، تسلك دربك إلى كمالك. إلى أن تصبح النور والقمر، الذكرى والصمت، السائل والجذر. 

 

فيندمج فيك الماضي بالحاضر، وتُروى نباتات الوجود من نبع ألمك، فتُزهر. 

فلا تخف أن تكون جذرًا، ففي أعماقك تولد الحياة.

 

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لغات الروح المتعانقة

  لغات الروح المتعانقة   "في معنى أن تكونا مرآتين لا مأويين"     يا من تجلت في حضورها البصيرة،   يا نورًا يمشي على هيئ...