البوصلة
الخفية
حنين
الروح إلى المجهول!
ملحمة
الشوق إلى وطنٍ لم تُكتَب خرائطه بعد
تأمل
في الحنين حين يتخذ من المجهول وطنًا.
تقف وحدها على حافة
العالمين. ليست حافة جغرافية، بل حدًّا رقيقًا بين اليقين والحُلم. خلفها، صمت
المألوف بألوانه الباهتة وأزمنته المتكرّرة. أمامها، ينبسط الضباب الذهبي، لا
كحاجب، بل كـوَعْدٍ.
هو ليس عدمًا، بل
إمكانٌ متجسّد. يتنفّس ذلك الضباب ببطءٍ ووقار، ككائنٍ هُوليٍّ نائم، تخفق في
أعماقه أنفاس عوالم أخرى.
في كل زفيرٍ له،
يتموّج الماضي بالمستقبل، ويتحوّل الواقع إلى وعد.
وفي عمق الضباب، تلوح
أحيانًا أطيافٌ من ألوانٍ لا تُشبه طيف الشمس، بل كأنها انعكاساتٌ من ذاكرةٍ لم
تولد بعد، كأنها صور من حلمٍ سابق على الوجود.
ثم تأتي الريح. ليست
ريح العواصف، بل نسيمًا حاملًا همساتٍ من عبق أزهارٍ غير معروفة.
لم تشمّ رائحةً مثلها
قطّ في عالمها المألوف.
هي رائحة البيوت التي
لم تُبنَ بعد، والذكريات التي لم تعِشْها بعد.
تمتزج بهذه الهمسات
أصواتٌ أخرى: خطواتٌ بعيدةٌ تتردّد في أعماق الضباب الذهبي.
أأشباحٌ أم رفقاءُ
رحلة؟
أأصوات من سبقونا إلى
هذا الحيّز، أم صدى أقدامنا نحن في المستقبل؟
لا يُفضي السمع إلى
يقين، بل يُغري بالإصغاء أكثر.
وكان في الضباب صوتٌ
خافت، لا يُشبه الريح، بل كأنّه نَفَسٌ طويلٌ لكائنٍ لا يُرى، يُناديها باسمٍ لم
تسمعه من قبل، لكنه يخصّها.
تمدّ يدها، لا بجسارة
من يأخذ، بل برِقّة من يستأذن. وفي حركتها هذه، سؤالٌ صامت:
"أأنتِ هناك؟
أأنا هناك؟"
ويستجيب الضباب. ليست
استجابة المستسلم، بل استجابة الرُّقيّ.
يتماوج، يتلوّن،
يتغيّر شكله.
تُرى، أيتشكّل حسب
رغبتها، أم أن رغبتها هي التي تتشكّل بمقتضاه؟
كلما اقتربت أصابعها
من حدّه المتلألئ، يتحوّل إلى مرآةٍ تبرق بشوقها: تارةً يكتسي شكل ساحلٍ بعيد،
وتارةً يُقلّد معالم وجهٍ غائبٍ عن ذاكرتها، ولكنه كامنٌ في دمها.
هو لُغزٌ يُغري
بالحلّ، لا لينكشف، بل ليزداد غموضًا وجمالًا.
وفي لحظات الاقتراب
هذه، يُغمر جسدها بدفءٍ خفيف، لطيفٍ كلمسِ شفقٍ.
ليس دفءَ الشمس التي
تعرفها، بل دفءَ حضن.
نعم، حضنٌ
ينتظرها.
كأنها عادت أخيرًا
إلى مهدٍ لم تعرف أنها خرجت منه.
هذا الدفء هو برهانها
الوحيد، بوصَلَتُها الخفية.
هو يُخبرها بأن هذا
الحنين ليس وهمًا، ليس فراغًا نفسيًّا يُراد سدّه.
إنه اتّجاه.
اتّجاه الروح نحو
منبعها قبل أن تعرف العين طريقه.
القلب ينتبه إلى
انتمائه قبل أن تُدركه البصيرة.
كأن الزمن في هذا
المكان لا يسير، بل يلتفّ حولها، يهمس لها بلحظاتٍ لم تعشها بعد، ويبتسم لذكرياتٍ
لم تحدث.
فيتجلّى السؤال
الأكبر:
أنحن نَحنَنُ إلى
ماضٍ فاتنا، أم إلى مستقبلٍ سبقت أرواحُنا إليه؟
أهذا الشوق الغامض هو
صدى ذكرى أولى، أم نبوءة وعدٍ أخير؟
الضباب الذهبي لا
يُجيب.
إنما يُرسّخ السؤال
في أعماقها، فتعلم أن الحياة ليست في العبور من الضباب، بل في الاستسلام
لسحره.
أن تقف على الحافة،
بقلبٍ ممتلئٍ ويدٍ ممدودة، هو نفسه نهاية الرحلة وبدايتها.
لأن المجهول ليس
مخوفًا، بل هو الوجه الآخر للحب.
والحنين ليس ألمًا،
بل هو بوصلة الروح.
تُشير دائمًا نحو
بيتها الحقيقي، في وسط ضبابٍ ذهبيّ، له روح، وقلب، وحضنٌ ينتظر.
ينتظر.
جهاد غريب
أكتوبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق