الأحد، 26 أكتوبر 2025

نُدوبٌ تُتْقِنُ لُغَةَ الرُّوح

 

نُدوبٌ تُتْقِنُ لُغَةَ الرُّوح 

"في أن يكونَ الألَمُ مرآةً للوعي، وجسرًا إلى الذاتِ والآخَر"



 

بينَ ضلوعي، حيثُ يسكنُ القلبُ بكلِّ براءتِه الأولى، تنفتحُ هُوّةٌ يتكلّمُ منها الألَم. ليسَ هُنا حيثُ تنتهي الحياة، بل حيثُ تبدأ براءةُ الجُرحِ في الكلام. الجِراحُ ليست سطورًا تُقرأُ على جسدٍ عابر، إنّها لغةُ القلبِ حينَ يعجزُ اللسان، حروفُها نُدوبٌ تروي ما تعجزُ عنه الكلمات.

إنّ هذا النَّفَسَ الموجوعَ ليسَ شكوى، بل هوَ ميلادُ وعيٍ جديد. الألَمُ الحقُّ لا يطلبُ العزاءَ من الخارج، بل يسعى إلى إضاءةِ الدّاخل. وكما أنّ الشجرةَ لا تنمو إلى الأعلى إلّا بجذورٍ تتعمّقُ في التراب، كذلكَ الروحُ لا ترتقي إلّا بآلامٍ تتعمّقُ في الوجدان. هوَ ذاكَ الحوارُ السريّ بينَكَ وبينَ أعمقِ ما فيك؛ حيثُ تتبدّدُ الأصواتُ الخارجيّةُ، ويبقى صدى الجُرحِ دليلًا، صدىً يُذكّرُ أنّ الحياةَ ليست سطحًا ناعمًا، بل عُمقًا يحتاجُ إلى الغوص.

الألَمُ لا يمرُّ مرورَ الغريب، بل يُقيمُ في الذاكرةِ كساكنٍ أبديٍّ يعرفُ طريقَه إلى كلِّ زاويةٍ فينا، يُعيدُ ترتيبَ الصورِ القديمةِ ويمنحُها معنًى جديدًا. كلُّ لحظةِ وجعٍ تُعيدُ تشكيلَ الماضي، لا لتُشوّهه، بل لتُعيدَ قراءتَه بنُضجٍ لم يكنْ متاحًا من قبل. وهكذا، يُصبحُ الألَمُ مرآةً لا للانكسارِ فقط، بل لفَهمِ ما كانَ غامضًا، ولإعادةِ بناءِ الذاتِ على أُسُسٍ أكثرَ صدقًا، فيرى القلبُ في انكساراتِه وجهَ الحقيقة. الألَمُ ليسَ عدوًّا دائمًا، بل أحيانًا يكونُ المُترجِمَ الذي لا يحتاجُ إلى قاموس.

وحينَ نتأمّلُ جراحَنا، لا نراها وحدَها، بل نرى من خلالها جراحَ الآخرين. الألَمُ يُوحّدُنا بصمتٍ، ويكسرُ وهمَ الانفصالِ بين الأرواح. الجُرحُ الذي نحملُه قد يكونُ هوَ الجسرَ الذي نعبرُ به إلى فَهمِ الآخر، إلى التّعاطفِ معه، إلى إدراكِ أنّنا لسنا وحدَنا في هذا العبورِ الصعب. وهكذا، يتحوّلُ الألَمُ من تجربةٍ فرديّةٍ إلى لغةٍ إنسانيّةٍ جامعة، تُنقّي القلبَ من الغرور، وتُعلّمهُ التواضعَ أمامَ هشاشةِ الجميع.

ومن رمادِ الألَمِ يولدُ ذهبُ الروح. كالنارِ التي تُحرِقُ القشَّ لتُبقي على المعدنِ الثمين، تأتي الآلامُ لتحرقَ كلَّ ما هوَ عابرٌ فينا وتُبقي على جوهرِنا المتألّق. ما كانَ ألَمًا يتحوّلُ إلى حِكمة، وما كانَ جرحًا يصيرُ منبعًا للقوّة.

ليسَ الألَمُ نهايةً، بل بدايةُ فِعلٍ جديد. حينَ نُصغي إلى جراحِنا، لا نبقى في دائرةِ التأمّلِ فقط. نحنُ لا نُشفى حينَ يزولُ الألَم، بل حينَ نمنحُه اسمًا ومعنًى، بتحويلِ الوجعِ إلى مشروعِ حياة. قد يكونُ ذلكَ في كلمةٍ نكتبُها، أو يدٍ نمدُّها، أو صمتٍ نُهديه لمن يحتاجُه. الألَمُ حينَ يُفهَم، لا يبقى ساكنًا، بل يُصبحُ طاقةً تُحرّكُنا نحوَ ما هوَ أصدق، نحوَ ما يستحقُّ أن يُبنى.

يُعلّمُنا الألَمُ فنَّ التحمُّلِ بصبرٍ جميل، لا بصبرِ الاستسلامِ البارد، بل بصبرِ البنّاءِ الذي يرى في كلِّ ضربةِ مطرقةٍ خطوةً نحوَ إكمالِ الصرح. النُدوبُ التي خلَّفها ماضٍ مؤلمٌ لم تُخلَق لتكونَ ذكرى تُضعِف، بل لتكونَ دليلًا يُرشِد؛ هيَ شواهدُ على معاركَ خُضناها وانتصرنا فيها على انكسارِنا الذاتيّ، وأثبتنا أنّ جوهرَ الإنسانِ أصلبُ من هشاشةِ الظروف.

كلُّ خذلانٍ أو سقوطٍ كانَ تمهيدًا صامتًا للقفزةِ الأعظم. وحينَ تلمسُ النُدبةُ ضوءَ الصباح، لا يبدو الألَمُ كما كان، بل كأثَرٍ خافتٍ على الجلد، يُذكّرُنا بأنّ ما انكَسرَ قد تَعلَّمَ كيفَ يُضيء.

النُدوبُ ليست تشوُّهات، بل فنٌّ داخليٌّ لا يُرى إلّا لمَن يُصغي. هيَ كالنقوشِ على جدارِ الروح، كلُّ واحدةٍ منها تحكي قصّةَ نجاة، وقصّةَ مقاومة، وقصّةَ حُبٍّ لم ينكسرْ رغمَ الألَم. ومَن يتعلَّمُ قراءةَ نُدوبِه، يتعلَّمُ أيضًا كيفَ يقرأُ نُدوبَ الحياةِ من حولِه، في وجوهِ الناس، في صمتِ المدن، في تغيُّرِ الفصول. وهكذا، يُصبحُ الإنسانُ أكثرَ قدرةً على العيشِ بوعيٍ، لا لأنّه لم يتألَّم، بل لأنّه لم يُنكِرْ ألَمَه.

ولذلكَ، فإنّ أعظمَ الشجاعةِ ليستْ في أن تُواجهَ العالمَ بقلبٍ من حجر، بل في أن تُصغيَ لصوتِ جرحِك قبلَ أن تُصغيَ للعالم. أن تنحنيَ على نُدوبِك بخشوع، فتسمعَ فيها همسَ الروح، وتقرأَ في دمائِها القديمةِ خريطةَ الطريقِ إلى ذاتِك. ففي صمتِ الجُرحِ حكايةٌ تُعلِّمُك، وفي عُمقِ الألَمِ كنزٌ ينتظرُ مَن يكتشفُه. ولعلَّ كلَّ جُرحٍ فينا، ما وُجِدَ إلّا ليُذكِّرَنا أنّنا ما زلنا أحياءَ بما يكفي لنشعر.

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لغات الروح المتعانقة

  لغات الروح المتعانقة   "في معنى أن تكونا مرآتين لا مأويين"     يا من تجلت في حضورها البصيرة،   يا نورًا يمشي على هيئ...