الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

السراب والواحة: الصفاء في صحراء الذات

 

السراب والواحة: الصفاء في صحراء الذات 

"عن الارتواء الذي يسكن العطش"

 



كانت الشمس تُذيب أطراف الأفق في بوتقة من لهبٍ أصفر. كانت الصحراء تمتدّ كصحيفة بيضاء مرسومة بلغة الضوء والحرارة، لا يُقرأ منها سوى إملاءات العطش. وفي قلب هذا الفراغ القاسي، رأى ما ظنّه خلاصًا: بركة ماءٍ صافية، تلمع كقطعة من السماء سقطت على الأرض، تتراقص على سطحها خيالات النور، وتعد بالارتواء.

 

انطلق إليها. كانت قدماه تغوصان في الرمال الحارقة، كل خطوة كانت قصيدة ألمٍ ونشيدَ توقٍ. كان الظمأ الذي يحمله في حلقه ليس للماء فحسب، بل لشيءٍ ضائع، لصفاءٍ نسيه، لبردٍ يطفئ نارًا لا يعرف مصدرها. كانت البركة تبتسم له من بعيد، ثم تتراجع بخفةِ سرابٍ يعرف كيف يُغري ولا يؤذي. كان الفضاء بينهما يتسع، ليس بالمسافة، بل بشيءٍ من فراغ الروح.

 

ثم، في اللحظة التي مدَّ فيها يده ليلامس برودة الماء المتخيل، انفجر المشهد.

 

لم تكن هناك بركة. لم يكن هناك ماء. انهارت الواحة كقلبٍ من زجاجٍ تحطمت على صمت الفراغ. وفي الصمت الذي تبع الانكسار، رأى شيئًا يتكوّن من الضوء نفسه، كأن النور بدأ ينحت المعنى من العدم.

وتحولت الواحة إلى رذاذٍ من كلماتٍ من نور، كلمات لا تنتمي لأي لغة يعرفها، تتطاير في الهواء كفراشاتٍ نارية، تتناثر ثم تتجمع، وكأنها تخضع لنوتة موسيقية غامضة.

 

كانت الكلمات النورانية ترسم في الهواء أشكالًا هندسية تتلاشى وتعود، كأنها خرائط لكون داخلي لا يُرى. 

وقف مشدوهًا، يراقب هذا الرقص الصامت. وللحظة عابرة، تجمعت هذه الحروف المتفرقة لتشكل جملة كاملة، واضحة كوحي، ثم تلاشت قبل أن يتمكن من فهمها، كأنها رسالة من ذاته العليا، لم يُمنح بعدُ إذنًا لسماعها.

 

حاول اللحاق بها، كمن يريد أن يمسك بالدخان. لكن كلما أسرع، كلما زاد تبعثرها، وارتفع ذلك الرنين الخفيف الذي تصدره، كجرسٍ يُقرع في عالمٍ بلوريٍّ آخر، يهزُّ أعصابه دون أن يمنحه معنى. 

في الخلفية، كان هناك صوتٌ يشبه تنفّس الرمل، لا يُسمع، بل يُحسّ، كأنه صدىٌ قديمٌ لخطواتٍ لم تُمشَ بعد.

كان يركض في الرمل كما يركض فكره في متاهة الأسئلة، كلما اقترب من الجواب، ابتعدت الحقيقة.

تكرر هذا المشهد مرارًا. الجري، الاقتراب، الانفجار، التلاشي. كان الإحباط يسكبه في قالبٍ من يأس. لكن في إحدى المرات، سقط على ركبتيه منهكًا، مستسلمًا لحر الصحراء الحارق، الذي كان يزيد من وهم الحاجة، كشهوةٍ روحيةٍ أُحرقت بلهيب الجسد.

 

وعندها، حدثت المُعجزة.

 

عندما توقف عن الجري، عندما استسلم للسكون، لم يعد هناك ما يطارده. وفي هذا الصمت المهيب، بدأت كلمات النور تعود. ولكن هذه المرة، لم تفرّ منه. كانت تتراقص حوله بهدوء، تقترب وتلمس جبينه المتعب بردًا مفاجئًا. 

وفي سكونه، استطاع أن يسمع رنينها بوضوح أكبر، ليس كصوت، بل كاهتزازٍ يملأ فراغه الداخلي. 

كأن الزمن لم يكن يمضي، بل كان ينحني حوله، يهمس له بما كان، وما سيكون، وما يسكنه الآن. 

وشمَّ رائحةً غريبة، كرائحة المطر حين يلامس ترابًا ظلَّ عطشانًا لأمدٍ طويل، رائحة الوعد والخلاص.

 

أدرك أن الصفاء ليس واحةً تُزار، بل هو نبعٌ يتفجر من صمته، وأن النور الذي جاب الصحاري بحثًا عنه لم يكن يسطع في الأفق، بل كان يسكن في أعماقه.

 

لم يعد بحاجة لملامسة الماء. لقد فهم أن العطش نفسه كان السراب.

 

وأن الارتواء الحقيقي هو أن تشرب من وجودك أنت. 

 

فجلس هناك، في قلب الصحراء، يشاهد كلمات نوره تؤلف حوله قصيدة الوجود، وهو في مركزها، هادئًا، كأنه للمرة الأولى، في بيتِه.

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لغات الروح المتعانقة

  لغات الروح المتعانقة   "في معنى أن تكونا مرآتين لا مأويين"     يا من تجلت في حضورها البصيرة،   يا نورًا يمشي على هيئ...