سردية
الوجود: همس اللحظة بين الصمت والندوب
"رحلة
في أعماق اللحظات التي تنتظرنا وبين النظرتين، حيث يصبح الصمت لغة والندوب جمالاً،
في فيلم أكبر من وعينا"
بين همس اللحظة الحاضرة ذلك الصوت الخافت الذي يطل من أعماق الوجود، تبدأ الحياة في الكشف عن أسرارها. إنها ليست مجرد نقطة زمنية عابرة، بل كون كامل مختبئ في طيات نفسك. كل نفس تتنفسه يحمل في ثناياه أصداء الماضي وأنفاس المستقبل، وكأن الزمن ليس خطًّا مستقيمًا بل دائرة مقدسة تلتقي عندها كل اللحظات. وهناك لحظات تنتظرنا في زوايا الغيب، كضيوفٍ لم يقرعوا البابَ بعد، لكنّ وقعَ أقدامهم يتردّد خلف الجدران. إنها ليست مصيرًا محتومًا، بل احتمالاتٌ تتراقص في فضاء اللامحدود، تهمس بأن الغد ليس امتدادًا للأمس، بل ولادة جديدة لكل ما فينا.
نعيش حياتنا بين نظرتين: نظرة إلى الماضي الذي صار ذكرى، ونظرة إلى مستقبل لم يولد بعد. وفي تلك المسافة الهشّة، بين الماضي الذي لا يعود والمستقبل الذي لا يأتي، تنبض حياتنا الحقيقية. لكن أين نوجه أبصارنا؟ إلى الوراء حيث الأشباح، أم إلى الأمام حيث الأوهام؟ الحكمة تكمن في أن تعيش في الحاضر وأنت تدرك أن الماضي والمستقبل ليسا سوى وجهين لنفس اللحظة الأبدية.
وفي قلب هذه الحيرة، ينبع الصمت الممتلئ. ليس الصمت الخالي من المعنى، بل ذلك الصمت الذي يطن بالحكمة، والذي تسمع فيه دوي الكون. إنه الصمت الذي يلي العاصفة، والذي تلتقي فيه الأضداد. في هذا الصمت، تتكشف الحقائق التي تختبئ من ضجيج الكلمات. إنه البحر الهادئ الذي تحته تختلط كل التيارات، والموسيقى الصامتة التي يعزفها الوجود لنفسه.
كل لحظة، مهما بدت عابرة، تترك ندبة في الزمن. غير أن للصمت وجوهًا متعددة، بعضها سلام وبعضها إنذار. لكن هناك صمتًا آخر، هو صمت ما قبل الانهيار. ذلك الهدوء المخادع الذي يسبق العاصفة، عندما تتراجع كل الأصوات لتترك المسرح لصراخ لم يعلن بعد. إنه صمت تراكمي، كالرمال التي تتراكم حتى ينهار الجبل. في هذا الصمت تكمن أعظم المخاطر وأعمق الدروس، فهو يذكرنا بأن الهدوء ليس دائمًا سلامًا، بل قد يكون استعدادًا للانفجار.
ومن بين أنقاض الانهيارات، تظهر ندوب جميلة. الندوب ليست علامات ضعف، بل شهادات على الصمود، وحكايات محفورة بلحم الذاكرة. كل ندبةٍ حكاية، وكل ألمٍ ترك أثرًا أصبح جزءًا من جمالنا المختلف. إنها ليست عيوبًا نخفيها، بل وسامًا نفتخر به، فهي تثبت أننا عشنا، وكافحنا، وواجهنا الحياة بشجاعة.
وأحيانًا، في زوايا الذاكرة، تقف لحظة "كنت هنا، ولم تلتفت". إنها شهادة على وجودنا الذي قد يغيب عن عيون الآخرين، لكنه يظل محفورًا في كينونة الكون. لا تحتاج وجودك إلى اعتراف الآخرين، فمجرد أنك كنت هنا، في زمان ومكان ما، يكفي لتغير مسار الأحداث بطريقة لا تدركها العيون.
كل هذه المشاهد تتجمع لتشكل فيلمًا أكبر من وعينا. فيلم نشارك فيه جميعًا كممثلين ومشاهدين في آن واحد. حياتنا ليست سوى مشاهد في هذا الفيلم الكوني العظيم، حيث تتقاطع حكاياتنا مع حكايات الآخرين في نسج إلهي معقد. قد لا نفهم دائمًا حبكة القصة، لكننا نشارك في صنعها بلحظاتنا، بأنفاسنا، بصمتنا وكلامنا.
وفي النهاية، ندرك أن الحياة ليست سلسلة من الأحداث المنفصلة، بل نسيج
واحد متماسك، حيث تلتقي الهمسات بالصمت، والندوب بالجمال، والماضي بالمستقبل.
وأننا في رحلتنا هذه، لسنا سوى حروف في قصة أكبر، أجزاء من لوحة لا نراها كاملة، لكننا
نعلم في أعماقنا أنها تحمل معنى يفوق إدراكنا، ومع ذلك، يكفي أن نحياها بصدق،
لنكون جزءًا من دهشة الخلق.
جهاد
غريب
أكتوبر
2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق