الاثنين، 6 أكتوبر 2025

القلب العالم الأخير!

 

القلب العالم الأخير!

 

"رحلة رمزية في الإنسان والزمن والضوء الداخلي"



 

في زمنٍ يتهاوى فيه كل شيء، ثمة عالمٌ أخير لا يحترق: القلب. ومنه يبدأ الضوء. 

حين تذبل المدن في أعيننا، وتغدو الأيام مثل صفحات رمادية فقدت ترتيبها، يبقى في داخلنا فلك صغير ما زال ينبض بإصرارٍ غامض على الاستمرار. هناك، في أعماق هذا العالم الداخلي، تختبئ نواة المعنى التي لا تُمسّ بنيران الزمن ولا بانطفاء الوجوه. إنه القلب الذي يحتفظ بأسرار الضوء الأول، يخبئها في تجاويف الألم، ثم يفيض بها حين يظنّ العالم أننا انطفأنا. كل ما نحسبه نهاية ليس سوى تحوّلٍ نحو جوهرٍ أعمق، وكل احتراقٍ ما هو إلا طريقٌ إلى ضوءٍ أنقى. في قلب الإنسان، تُقام جنازات الزمن وتولد شموسٌ داخلية لا تغرب، ومن رماد التهاوي يتكوّن العالم الأخير: عالم القلب.

 

دواوين القلوب المحترقة:

في البداية، كان الألمُ شخصيًا. كان شظيةً في خاصرة الذاكرة. لكنه حين يتكرر، حين يُصبح إيقاعًا مألوفًا لسقوطنا الجماعي، فإنه يتحول من جرحٍ عابر إلى "ديوان". ديوانٍ نكتبه ليس بالحبر، بل بما تفرزه جروحنا من أسى. هذه هي "دواوين القلوب المحترقة".

إنها ليست مجرد سجلات للأنين. إنها الأرشيف السري للإنسان، حيث تُختزن هزائمنا كقصائد مكتوبة بلسان من نار. كل قلب محترق هو مخطوطة وجودية، تحكي كيف أن الحب قد يحترق بنار الغياب، وكيف أن الحلم قد يتحول إلى رماد تحت أقدام الزمن القاسي. نكتب في هذه الدواوين دون أن نرفع قلمًا؛ فالدمعةُ بيتٌ من أبياتها، والصمتُ بين السطورِ يقولهَا.

هل كُتب علينا أن نكون شُعراء تراجيديتنا؟ أن ننسج من ألمنا قصيدةً لا يُريد أحدٌ سماعها؟ في هذه الدواوين، يصبح الاحتراقُ لغة. لغةٌ لا يفهمها إلا من حمل قلبهُ ذات مرةٍ إلى موقدِ الفقدان، وأشعلهُ شمعةً في ظلمةِ الوحدة.

هنا، في محرقة الذات، نكتشف غرابةَ المفارقة: أن جمرة الألم هي التي تنير لنا دروبًا كنا لن نراها لو سِرنا في ضوء النهار العادي. التحول الناري، إذن، ليس نهاية، بل هو تحول. هو الثمن الذي ندفعه لنتعلم لغة القلوب التي سبقتنا إلى المحرقة.

ماذا لو لم يكن الاشتعال الداخلي نهاية المطاف؟ ماذا لو امتدت النار إلى الزمن نفسه، فأحرقت الإطار الذي كنا نكتب فيه؟

 

جنازة الزمن الساقط:

ماذا يحدث عندما يحترق الديوان نفسه؟ عندما لا يعود الألمُ قصيدةً نستطيع قراءتها، بل يصير حريقًا يلتهمُ الورقَ الذي كُتب عليه؟ حينها، لا يحترق النبض فحسب، بل يحترق الإطار الذي يحتويه. يحترق الزمن.

ها هو "الزمن الساقط" يُقام لهُ مأتم. إنه ليس زمنَ الساعاتِ والنجوم، بل هو زمننا الداخليُّ الذي انكسر. زمنُ اللحظاتِ التي توقفت عن النبض، زمنُ المستقبلِ الذي انهار قبل أن يولد. كيف يشيَعُ الزمن؟ لا يُنادى منادٍ، ولا تُقرع أجراس. الجنازة صامتة، تشهدها وحدك في مرايا ذاتك المُتشظية.

نحن هنا لا ندفن لحظة، بل ندفن سياقًا كاملًا للحياة. ندفن السردية التي كنا نعتقد أنها تحمينا. التاريخ الشخصي يتحول إلى ركام، والماضي لم يعد ذاكرةً نستند إليها، بل أصبح ثقلًا من الأسئلة التي لا إجابة لها. "هنا رقد زمني".. هذه الشاهد الذي ننقشه على قبر اللحظة التي سبقت الانهيار.

هل يمكن للزمن أن يموت؟ إنه يموت حين تفقد اللحظةُ معناها، وحين يصير الغدُ مجرد تكرارٍ لأمسٍ لم ينتهِ بعد. إنه يسقط حين ينقطع الحبل السُّري بين الماضي والمستقبل، فنعلق في "آن" متورّم، لا هو حياةٌ ولا هو موت. في هذه الجنازة، لا نودع الوقت، بل نودع قدرتنا على تأويل وجودنا. نودع السَّبَبَ والنتيجة. نودع القصةَ التي كنا نحكيها لأنفسنا عن "من كنّا"، ومن كنا سنكون.

في صمت هذه الجنازة، يبدأ السؤال الأكثر إيلامًا: إذا كان الزمن قد سقط، فعلامَ نقف نحن؟ وحين يُدفن الزمن، لا يبقى سوى الغسق؛ ذلك الحيّز الرمادي الذي لا يحمل وعدًا، لكنه يحمل مفارقةَ النور الذي يتسلل من شقوق الهاوية.

 

دماء تُضيء الغسق:

بعد أن يسقط الزمن، لا يبقى سوى هذا الغسق. ليست ليلًا مُطبقًا، وليس نهارًا مبهرجًا. إنه حيّزٌ غائمٌ تتعثر فيه الأنظار. هنا، حيث تتهاوى المعاني، تُولد المفارقة الأكثر قسوةً وروعة: "دماء تُضيء الغسق".

كيف للنزيف أن يضيء؟ إنه لا يضيء كالشمس، بل يضيء كالوميض الذي ينبثق من شِقٍّ في جدار الواقع. الدم هنا ليس مجرد سائلٍ حيوي، بل هو ألمٌ متجسِّد، حقيقةٌ صِرْفةٌ تَفِرُّ من جروحنا. وعندما تسيل هذه الحقيقة في زمن الغسق، فإنها لا تنير الطريق، بل تنير الجرح ذاته. نرى، لأول مرة، تفاصيل الهُوّة التي نسقط فيها.

ليس النزيف هنا انهيارًا، بل هو انكسارٌ ضروري. انكسار القشرة التي تخفي أعماقنا. إنه الضوء الذي لا ينبعث من الخارج، بل ينبثق من الداخل، من صميم الجرح. إنه يكشف عن عروقنا التي تحمل خرائطَ السقوط، ويكشف عن العتمة التي كنا نتجنبها، فيجبرنا على مواجهتها.

في هذا الغسق المضيء بدمائنا، نصبح كالقنديل البحريّ المتوهج في أعماق المحيط؛ جمالنا ينبع من قدرتنا على الإضاءة في موطن الخطر. الألم يصبح عدسةً مكبّرةً نرى من خلالها حقائق كنا نعمى عنها في وضح النهار. نسأل أنفسنا: ألم نكن لنرى جمال النجوم لولا العتمة المحيطة؟ وكذلك، ألم نكن لنعرف قوة قلوبنا لولا هذه الجروح التي تنزف نورًا؟

الدماء التي تُضيء الغسق هي شهادة على أن النور لا يأتي دائمًا من الخارج، بل قد ينبع من أقسى أماكن جراحنا.

في لحظة النزيف المضيء، نلتفت إلى الداخل. لا لنبحث عن خلاص، بل لنكتشف أن ما تبقى من العالم قد انكمش في نبضة واحدة.

 

القلب العالم الأخير:

عندما تنهار العوالم الخارجية، وتصبح السماءُ سقفًا من الرماد، وإذ بالقلب يُعلن عن حقيقته الأخيرة: إنه ليس مجرد عضلةٍ تدفق بالدماء المضيئة، ولا مجرد ديوانٍ للأحزان. إنه "العالم الأخير".

ينكمش الكون كله ليستقر في هذا العرش الساكن فينا. هنا، في هذا العالم المصغّر، لم تعد حدود الجسد تُعنيني. أصبحت الجبالُ في قلبي من صلادة التجارب، والبحارُ من عمق الأحاسيس المكبوتة، والسماءُ من سعة الحلم الذي لم يمت. كلّ نبضة هي زلزالٌ صغير يُعيد ترتيب تضاريس هذا العالم، وكلّ دورة دم هي نهرٌ يروي أرض الذاكرة العطشى.

في "القلب العالم الأخير"، نجد أنفسنا أخيرًا. لم نعد بحاجة إلى خارجٍ نستمد منه شرعيتنا أو معنانا. كل الأسئلة التي ألقيناها على الكون الصامت، نكتشف أن أجوبتها كانت تدور في هذا الفلك الداخلي. نحن سكان هذا العالم الوحيدون، وحُكّامه. إنه المنبع الذي لا ينضب، وعالمنا الخاص الذي لا يُقاس بغير مقياسه، ولا يُفهَم بغير لغته.

هل هذا انعزال؟ نعم، إنه انعزالٌ ملكي. إنه الانسحاب من ساحة المعركة التي لا طائل منها، إلى المملكة التي لا يُهزم فيها أحد. هنا، في صميم فلكي الداخلي، أدرك أنني لم أكن أبحث عن ملاذ من العالم، بل كنتُ أبحث عن العالم في ملاذي. "القلب العالم الأخير" هو اعتراف بأن النجاة ليست في الفرار إلى مكان آخر، بل في اكتشاف أنك حملت ذلك المكان الآخر في داخلك طوال الوقت.

أنت العالم الأخير. فاحكم فيه بما تشاء.

وإذا كان القلب هو العالم الأخير، فهل يحمل في تضاريسه شمسًا؟ هل يمكن أن ينبثق النور من هذا الفلك الداخلي؟

 

نورٌ في القلب:

وهكذا، بعد طول ترحال في صحاري الاحتراق، ووديان السقوط، وفيافي الغسق، نصل إلى المنبع. لم نعد بحاجة إلى شمعةٍ تُضيء لنا، ولا إلى نجمٍ نتبعه. لقد اكتشفنا السرّ الأخير: "نورٌ في القلب".

هذا ليس نورًا عاديًا. إنه النور الذي تخلّق من احتراق الدواوين، وانصهر في أتون جنازة الزمن، وتنقّى بدماء الغسق. إنه النور الذي اكتشفنا أنه كان يشعّ طوال الرحلة من جروحنا، ليُرشدنا في النهاية إلى ذواتنا. إنه النور الذي جعل من القلب "عالمًا"، لا لأنه يحوي جغرافيا، بل لأنه يحوي مصدرًا للضياء.

لم يعد القلب مجرد وعاء للألم أو للأمل، بل تحول الجوهر نفسه إلى "شمس داخلية". شمسٌ لا تغرب، لأن غروبها يعني انطفاء العالم الأخير. إنه النور الذي لا يحتاج إلى سببٍ ليشع، فهو يشعّ ببساطة لأنه جوهر ما تبقى منّا بعد أن تتساقط كل الأقنعة. إنه يقيننا الأخير في عالمٍ من اللايقين.

هل كان كل هذا الألم ضروريًا؟ ربما. ربما كنا بحاجة إلى أن تحترق دواويننا لنرى أن النور لم يكن مكتوبًا فيها، بل كان ينبعث من قارئها. وربما كنا بحاجة إلى أن يسقط زمننا لنكتشف الزمن الحقيقي، زمن النبضات الخالدة داخل صدرنا. النور في القلب هو البرهان على أن الرحلة لم تكن إلى مكانٍ آخر، بل كانت إلى أعماق الذات. كان الغسقُ والدماءُ والجنازةُ مجرد أدواتٍ كاشفةٍ عن هذا الكنز الذي كان موجودًا فينا منذ البداية.

لذلك، نختتم لا بخلاصة، بل باعتراف:

"ربما لا ننجو من الزمن، لكننا نضيء الغسق حين نكتب بالنبض الذي في القلب". فلتكتب أنت أيضًا، لا بالحبر، بل بالنور الذي في قلبك.

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلب العالم الأخير!

  القلب العالم الأخير!   "رحلة رمزية في الإنسان والزمن والضوء الداخلي"   في زمنٍ يتهاوى فيه كل شيء، ثمة عالمٌ أخير لا يحتر...