الجمعة، 19 سبتمبر 2025

من يكتب قصتنا؟

من يكتب قصتنا؟

 

عن الخيوط الخفية التي تنسج قراراتنا

 


في الظل الهادئ الذي يليق بزوايا النفس، حيث تُتخذ القرارات ليس كعواصف مفاجئة، بل كنسائم تأتي من حيث لا ندري، يتشكل مصيرنا. هناك، في تلك المساحة التي لا يصلها ضوء الوعي الكامل، تعمل قوى خفية. إنها لا تسرق إرادتنا، بل ترقص معها في صمت، كظلٍّ راقص على أنغام حياتنا.

هل شعرت يومًا بأن قرارًا ما قد نضج فيك كالثمرة، لكنك لا تتذكر من زرع البذرة؟ إنه ذلك الخيط الحريري الذي يربطك باختياراتك، خيطٌ ناعم لا تراه العين لكن القلب يحس بدفقه. إنه ينسج نفسه في نسيج وعيك، من خلال همسة صديق، وصورة عابرة، ولحن يطارح الذاكرة، بل وحتى من خلال الصمت الذي يملأ الفراغات بين الكلمات.

هذه ليست مصادفات عابرة تُختزل في لحظة، بل هي لوحة كاملة مرسومة بفرشاة النفس والإدراك. إنها قصة تُحاك بخيوط من الذهب والحرير، تُلقى على عتبة وعينا كضيف غير متوقع، لتدخل إلى أعماقنا قبل أن نفتح الباب على مصراعيه. في زحمة الحياة، حيث تدق ساعاتنا بدقات سريعة، يصبح عقلنا كالمسافر المتعب، يبحث عن مأوى في أفكار مريحة ومألوفة، حتى لو كانت جاهزة وغير خاصة به.

لسنا دائمًا من يمسك بدفة القرار. أحيانًا نُحمل على أمواج التأثير برقة، نُوجه بنعومة، نُقنع ببراعة، نُغوى بجمال. ليس لأننا ضعفاء، بل لأننا بشر، ننجذب إلى الحكاية الجميلة، ننجرف مع التيار إذا كان ممتعًا، نثق إذا كانت الألوان زاهية والأصوات ناعمة. لا أحد يهاجمنا بالصراخ، بل تُلقى الرسائل في أذننا كأنها أسرار، تُزرع في قلوبنا كبذور حب، ثم تنمو لتصبح أشجارًا ضخمة من القناعات، تحمل ثمارًا قد لا نعرف من أي بستان جاءت.

وهذا التأثير ليس ساحرًا في أسواق التجارة وحسب، حيث تُباع الأحلام مع العطور، وتُباع الهويات مع الحقائب، ويصبح السعر مجرد وهم من أوهام القيمة، رقمًا يلمع ولكنه قد يخفي فراغًا. إنه يتغلغل في كل شيء، في معتقداتنا السياسية التي قد تكون مجرد صدى لأصوات عالية، في قناعاتنا الاجتماعية التي قد تكون إرثًا من الماضي، وفي أحلامنا الشخصية التي قد تكون مستعارة من لوحات الآخرين.

لا شيء في هذا يدفع إلى الخوف أو إلقاء اللوم، بل هو دعوة إلى وقفة صادقة مع الذات، إلى حوار هادئ مع ذلك الصوت الداخلي الذي يسأل: من يقبض على قلم حياتنا؟ هل نحن الكُتّاب أم مُجرد قُرّاء في مسرحية كُتبت لنا؟ كل قرار نتخذه هو مثل مرآة سحرية، لا تعكس فقط صورتنا الحالية، بل تعكس أيضًا كل الوجوه التي نظرت فيها، وكل الأيدي التي مسحتها.

لذلك، نحن هنا لا نوزع وصايا جاهزة، ولا نلقي باللوم على أحد، بل نفتح نافذة صغيرة على ذلك العالم السري الذي يتحرك فينا، ويقودنا بنعومة، دون أن نعترض أو حتى ننتبه. إنها دعوة إلى الاستقصاء الهادئ، إلى التأمل العميق، لا إلى رفض العالم أو الشك في كل شيء.

إذن، فنحن في الحقيقة لسنا دمىً عاجزة تتلاعب بها أيادٍ خفية. إن مجرد معرفتنا بوجود هذه الخيوط هو في ذاته بذرة التحرر. إنها اللحظة الفاصلة التي ننتقل فيها من دور الممثل في مسرحية كتبها آخرون، إلى أن نصبح نحن كتابَ سيرتنا الذاتية.

فلننظر إلى تلك الخيوط ليس كأغلالٍ تقيدنا، بل كخيوط غزلٍ بين أيدينا. بوعينا بها، نستطيع أن نمسك بإبرة إرادتنا، لا لنقطع الخيوط التي تشكل نسيج عالمنا – فهذا مستحيل – بل لنسجد خيوط قناعاتنا بخيوط الواقع، ونحيك منها رداءً فريدًا يحمل بصمتنا نحن، لا بصمة سوانا.

ربما يكون السؤال الأكثر مصيريةً ليس: "لماذا اتخذت ذلك القرار؟"

بل: "أية حكايةٍ كنت أرويها لنفسي قبل أن أتخذه؟ وأي صوتٍ كان يهمس في أذني عندما ظننتُ أنني أتحكم بمصيري بكامل حريتي؟"

إن أقوى سلاحٍ نملكه هو الوعيُ ذاته. إنه النجم الذي يهدينا في ظلام المؤثرات التي تحيط بنا. والقلم لم يسقط بعد من يد أي منا. إنه لا يزال ملقىً هناك، ينتظر أن نعثر على الجرأة لنخطّ به، ليس مجرد فصولنا الخاصة، بل عنوان وجودنا ذاته.

فليكن سؤالنا الأخير ليس عن ماضٍ انقضى وحُكم عليه، بل عن مستقبلٍ لم يُكتب بعد، ونحن من سيخطّ كلمته الأولى.

جهاد غريب

سبتمبر 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من يكتب قصتنا؟

من يكتب قصتنا؟   عن الخيوط الخفية التي تنسج قراراتنا   في الظل الهادئ الذي يليق بزوايا النفس، حيث تُتخذ القرارات ليس كعواصف مفاجئة، ...