الأحد، 14 سبتمبر 2025

من بحيرة الظلّ إلى ضوء القمر!

 

من بحيرة الظلّ إلى ضوء القمر!

 

"همسات الروح: رحلة من الظلّ إلى النور"

 

كتبتُني كما يترك عاشقُ سِرَّه في ورقةٍ صغيرة، ويُخبّئها في علبةٍ قديمة، لا لينساها، بل ليهتدي بها يومًا من يملك القلب ذاته. كنتُ كمن يبحث عن خيطٍ واهٍ يشدّه إلى نفسه، عن ومضةٍ صغيرة تذكّره أن قلبه ما زال نابضًا رغم الغبار. لم أكتب لأُخبر شيئًا؛ بل لأُصغي إلى ما لم يُقَل في داخلي، إلى تلك الهمسات التي ظلّت ترتجف في صمتٍ طويل، كأنها تخشى أن تتبخّر قبل أن يراها النور، كأنها شظايا نور تنتظر لمسةً لتعود إلى الحياة.

 لم أكتب لأروي ما كان، بل لأترك ندبةً خفيفة في صمت الوجود، كمن يضع حجرًا صغيرًا في جيب الزمن، ليتذكّر أنه عاش هنا، ولو مرّ الجميع دون أن يروه. لم تكن الحكاية غاية، بل كانت مجرّد أثرٍ يهمس للحياة أنني عبرتُها يومًا، وأن شيئًا مني بقي عالِقًا في هوائها، كظلٍ خافت يذكّرنا بأن الروح لم تغب تمامًا.

لم أكتب لأنني أردت الكتابة، بل لأن الكلمات كانت السبيل الوحيد للتنفس، وكانت الحروف المنافذ الأخيرة لهواءٍ لم يعرف الطريق إلى صدري منذ زمن. خرجت لا كقرارٍ واعٍ، بل كهمسٍ ارتجف بين الضلوع، كصرخةٍ ظلّت طويلًا حبيسة الحلق، ثم أفلتت فجأة، كنجمةٍ تشقُّ عتمة السماء وتختفي، تاركةً أثرًا في العيون لا في الأيدي، أثرًا ينبض بالغياب والحضور في آنٍ واحد، كأن الليل ذاته ينحني ليهمس: "كنت هنا".

 كتبتُني كما يدوّن إنسانٌ سطرًا في دفترٍ لن يراه أحد، لا ليحفظه، بل ليتركه كأثرٍ خفيفٍ في دربٍ طويل، على أمل أن يمرّ به يومًا من يشبهني، ويبتسم دون أن يعرف لماذا. كنتُ أرجو أن يجد في حروفي ما يعيد إليه طمأنينة اللحظات الضائعة، كما لو أنّ الكلمات قادرة على التقاط ما يسقط منا في الزحام، كأنها شباك خفيّة تجمع قِطع الروح المتناثرة.

 لم تكن الكتابة مشروعًا مدروسًا ولا مخططًا محكمًا، بل كانت تنهدة خرجت من صدرٍ ضاق بالصمت، وصرخةً انبثقت من حنجرةٍ كتمتها الأيام. كلّ كلمة خرجت كقطرةٍ أخيرة من غيمٍ متعب، وولدت من شعورٍ لم يحتمل الانتظار، وكلّ سطرٍ كان بصمةً لخطوةٍ تائهة تناثرت أوراقها في محطاتٍ كثيرة من العمر، كأنني غريقٌ كتب حكايته على قصاصة صغيرة، ووضعها في زجاجةٍ وألقاها في محيطٍ لا يعرف الرحمة، ثم استدار ليمضي، على أملٍ أن تتكفّل الرياح بإيصالها إلى شاطئٍ يعرف الدفء.

 كتبتُني كما تُخطّ الريح سرّها على صفحة ماء، عالمًا أنّ الموج سيمحو الحروف، لكنني أردتُ أن يعرف الماء أنّي مررت، وأن يظلّ في أعماقه ارتجافٌ خفيّ يشي بأنّي كنتُ هنا يومًا. تناثرت أوراقي كما تتناثر الريح على وجه الماء، وكأن كل شظية تحمل جزءًا من وجعي، أبحث من خلالها عن نورٍ لم يبتعد تمامًا. كانت كل جملة كجذرٍ خفي يمتدّ من أعماق روحي، وكل سطر خطوةً مرتجفة في ممرٍ معتم، لا تقوده خارطة، بل حدسٌ قديم بأن النور لا يكون بعيدًا.

 وفي صمت هذا التدفق، وجدت نفسي ألتقط ما تبقّى مني، من أطياف مبعثرة على سطح بحيرة الظل، كأنها انعكاس لوجهي الضائع في الزمن. كنت أراقب نفسي كما يراقب غريب انعكاسه على زجاج نافذة قطار يمضي، لا يعرف إن كان الراكب هو الآخر أم ظله. كتبتُني كما يكتب أحدهم رسالةً سريةً لنفسه، لا ليحفظها، بل ليتركها في مكانٍ آمن من النسيان، آملًا أن يعثر عليها يومًا قلب يشبهني، قلب أرهقته الرحلة، فيقرأها بعينيه الدامعتين، ويبتسم لأنه أدرَك أخيرًا أنّه لم يكن وحده أبدًا.

 وهناك، في سكون يشبه حافة الزمن، ومن ذلك الفراغ الذي يشبه تنفّسًا بطيئًا، بدأت أجمع ما تبقّى مني؛ أنثر الرماد لأرى أين تومض جمرة، وأتبع الضوء الخافت الذي يشبه ذاكرةً لم تكتمل، كأنني أبحث عن نفسي في صدى خطوات تاهت في العتمة. جمعت بقاياي المتناثرة على سطح بحيرة الظل التي راقبتني طويلًا، لا لتمنحني حياة أخرى، بل لتدلّني على ملامحي الضائعة التي تساقطت مني بصمت.

 كانت مرآةً لروحي حين غابت ملامحي عني، وبوصلةً خفيّة تومئ إلى ذلك الجزء مني الذي ظل صامتًا يراقبني من بعيد. لم تكن تمنحني حياة جديدة، بل كانت تعكسني كما أنا، بلا أقنعة، فقط صورةً نقيّة لما تبقّى مني حين سقط الضجيج وانحسر الزيف. كانت تلك البحيرة مرآتي حين فقدت صورتي في ازدحام العالم، وكأنها يدٌ خفيّة تلتقطني من قاع التيه، وتهمس لي برفق لا يشبه العالم، بأنني ما زلتُ هنا.

 كتبتُني على ضوء قمرٍ باهت يتدلّى كحلم فوق ليل ساكن، حيث تتثاءب الأيام، وتستحيل الأفكار إلى خطوات على أطراف الصمت. بدأت الكلمات تتشكّل كخطوط على صفحة ماء، كائنات صغيرة خرجت من شقوق الروح لتبحث عن باب في جدارٍ لا مرئي، كل حرف أثر نبض قديم، وكل سطر ظل خطوة لم تجرؤ أن تحدث. لم تكن مجرد جُمل، بل نبضًا دافئًا أقدمه لك، فسحة صغيرة للجلوس في ظلال الذات، والتأمّل فيما يبقى حين ينطفئ كل شيء.

 هذه الكلمات ليست قصة تُروى، بل عبور يُعاش، نافذة مفتوحة على هواءٍ لا يُرى، لعلّك حين تمر بها تشم رائحة نفسك القديمة، وتدرك أنك كنت هنا يومًا، وأنك ما زلت.

 إنها دعوة للمشي معًا بخطى صادقة، بخفّة الأرواح، من أعماق دواخلنا إلى رحاب العالم. اقرأها بقلبك قبل قلمك؛ لترى فيها ظلّك المطمور، أو شذرات روحك المنسية، أو الطمأنينة بعد حرب لم تخضها، والسلام الذي طالما كان فيك ولم تنتبه إليه، لتكتشف أن الطريق إلى العالم لا يُفتح إلا من هناك، من تلك البقعة الهادئة في أعماقك، البعيدة التي غفلْت عنها وأنت تركض خلف السراب. وسلامًا بعد احتراقٍ لم يلمسك، لكنه ترك رماده حولك؛ يُفتَح أبوابه لكل من أضناه التيه، وأحبّ — رغم كل شيء — أن يعود إلى نفسه.

 

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من بحيرة الظلّ إلى ضوء القمر!

  من بحيرة الظلّ إلى ضوء القمر!   "همسات الروح: رحلة من الظلّ إلى النور"   كتبتُني كما يترك عاشقُ سِرَّه في ورقةٍ صغيرة، و...