السبت، 13 سبتمبر 2025

حَصَى الكتمان!



حَصَى الكتمان!

"كيف تتحوّل الكلمات التي لم ننطقها إلى سجن وجودي؟"

بقيةُ صمتٍ تتحجَّر في الحناجر..  
نمضغها كحصى مُرّ،
نُظهر لها أسناننا في وهمِ النسيان،  
ونحسب أننا انتصرنا.

لكن الكتمان ليس صمتًا عاديًا..  
إنه رصاصٌ منصهرٌ يسكب في العظام،  
ثقله يمشي معنا كظلٍّ لا يُفارقُنا حتى في غَيبوبة النور،
نحمله في انحناءات الظهر،  
وفي الليالي التي تتكسر عند أطراف الجفن.

وفي الداخل..
هناك صوتٌ لا ينسحق:
همسٌ قاسٍ يرفض الهزيمة،
يَصهل بأفكارنا كحصانٍ متوحش،
يجرفنا إلى حُفرٍ لم نعرف أننا حفرناها بأيدينا.
نحن وحدنا من يسمعه..
هذا الصوت الذي يلعب بوقتنا ككرةٍ مثقوبة،
وتملؤنا رهبة أن ننكسر أمام العالم..
فنختار الهرب إلى صمتنا،
كطفلٍ يختبئ تحت سجَّادةٍ رقيقة،
يحسب أن الوحوش لن تجده هناك.

والكتمان نارٌ..
نارٌ صديقة نحتضنها في البرد،
نتدثَّر بلهيبها الخادع،
نظنها تدفئنا..
لكنها تأكل منا قطعةً قطعة،
حتى لا نبقى إلا جماجم محترقة.. 
وسرابًا.

أما النسيان..
فهو وهمٌ ننسجه كعنكبوتٍ متعب..
كلما أوشكنا على الانتهاء،
تذكرنا أننا لم ننسَ شيئًا..
إنما جعلنا من أنفسنا مُمثلين سيّئين،
نؤدي مشاهد العفو والإيهام،
ونحن نعلم أن الكلمات ما زالت حيةً تتنفس تحت الأضلاع.

لذلك..  
ننسحب إلى وحدتنا..  
نبني جدرانًا من ألغام الصمت،  
نمشي داخلها كأسرى فضاءاتٍ ضيقة،  
نخاف أن تنفجر الكلمة فتقتلنا..  
أو تقتل من أحببنا.

وفي الليل..  
تأتينا أفكارنا كبحرٍ يرسل أمواجه الغاضبة إلى الشاطئ،
نغرق في أمتعتنا غير المحزومة،  
في صدورنا الخاوية،  
في الكلمات التي لم نقلها..  
ونبقى نتأمل صمتنا العاصف..  
ونعرف أننا لسنا سوى..  
رمالٌ متحركة..  
تبلعنا..  
دون أن تتذمَّر.

هكذا نعيش..  
بين صمتٍ يقتلنا..  
وكلمةٍ ترعبنا..  
وتمضي..  
لا نغير شيئًا..  
لأننا.. 
أصبحنا نخشى الخلاص بقدر ما نخشى الهلاك.. 
وربما أكثر.

جهاد غريب
سبتمبر 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حَصَى الكتمان!

حَصَى الكتمان! "كيف تتحوّل الكلمات التي لم ننطقها إلى سجن وجودي؟" بقيةُ صمتٍ تتحجَّر في الحناجر..   نمضغها كحصى مُرّ، نُظهر لها أس...