عُمق بلا قاع: تأملات في لُجَّةِ اللغة!
"في محيط النسيان: رحلة الغريب بين بوابات اللغة"
أيها البحرُ.. كم أخبأتْ فيكَ الكلماتُ من غَرْقى!
أغوصُ في ماءٍ لا ذاكرةَ له. هكذا تبدأ الرحلة، أو ربما هي الغرق المُتأنّي. هذا الماء، شفافٌ كالعدم، عميقٌ كالزمن الأول، لا يحتفظُ بظلٍّ عابرٍ لسابحٍ، ولا يخزنُ همسَ حوريةٍ أو صرخةَ غريق.
إنه النسيان الأصيل المُتجسّد، السائل الذي يغسلُ أثقالَ الذاكرة ويذيبُ يقينَ الأشكال — لا كنسيانٍ عابرٍ، بل كلاإدراكٍ مُطلقٍ يُعيدُ الخلقَ إلى بَراءته الأولى، حيثُ لا وصايا للأسماءِ ولا سجونَ للمعاني.
أليس هذا سرَّ اللغةِ الأولى، قبل أن تتجمّدَ في قوالبِ التسميات؟ لغةٌ سائلةٌ تنسابُ من بين الأصابع كالزئبقِ الكونيّ، تحملُ كلَّ المعاني ولا تُمسكُ بواحدٍ منها، كحلمٍ يتبخّرُ مع اليقظةِ، تاركاً وراءه ظلاًّ لرائحةٍ بلا زهرةٍ، أو صدىً لصوتٍ بلا حنجرةٍ.
وهكذا تبدأ الرحلة... من الغوص إلى الدخول في عوالم أخرى.
مذكراتُ ظلٍّ تحتَ عرشِ العقل
فجأةً، أجدني أدخلُ عالَمًا لا يرضى بالقياسِ ولا يُفصحُ عن قراره. عالمٌ يرفضُ مسطرةَ المنطق وميزانَ العقل، كأنما القوانينُ هنا تكتبُها ريحٌ عمياءُ، والأبعادُ ترتسمُ بحركةِ جفنِ حالمٍ. كلُّ محاولةٍ لرسم خريطةٍ تتحولُ إلى شظايا ضبابٍ — ضبابٍ يلمعُ كالفضةِ السائلةِ حين تلمسُه، ثم ينفرطُ بين الأصابعَ كذكرياتِ طفلٍ عن جنّةٍ لم يرها. المعنى هنا لا يُقاس بالذراعِ أو يُوزنُ بالقسطاس؛ إنه يتنفّسُ ككائنٍ حيٍّ، ينبضُ تحتَ الجلدِ بلا نبضٍ مرئيٍّ، يتملّصُ من التعريفاتِ كظلٍّ يهربُ من مصيدةِ ضوءٍ. يرفضُ أن يُختزلَ في جملةٍ حاسمةٍ أو حكمٍ نهائي.
قراره؟ سرٌّ غامضٌ يذوبُ في الأفقِ، كشمسٍ لا تُعلنُ شروقَها أو غروبَها، بل تخلعُ أثوابَ الزمنِ في صمتٍ ملكوتيٍّ. أليس هذا جوهرَ الشعرِ الحقيقيّ: أن يكونَ الكلامُ قبسةً من صمتِ الكونِ؟ وأليستِ الفلسفةُ التي تتجاوزُ البرهانَ هي رقصتُنا الأخيرةَ على حافةِ المنطقِ؟ عالمٌ يرفضُ أن يكونَ تابعًا، ويصرُّ على أن يكونَ لغزًا — لغزًا يفتحُ ذراعيهِ كبحرٍ، ويُغمضُ عينيهِ كطفلٍ يعرفُ أنَّ الإجابةَ ستقتلُ السؤالَ.
في متاهة الدلالات أُبحِرُ، في نصٍ لا يُشبه أيَّ شاطئٍ أعرفه. لا علاماتٍ مألوفةً على سواحله، لا صخورَ تُشيرُ إلى عواصفَ قديمة، ولا رمالً تدوّنُ آثارَ عابرين. النصُّ هنا محيطٌ ينسجُ جغرافيتهُ بنفسه - أمواجُه تُرقِّصُ النجومَ في قاعه، وأعماقُه السوداءُ تبتلعُ حتى صرخاتِ النور. كلُّ كلمةٍ موجةٌ تدفعُ بي إلى مجهولٍ يلدُ مجهولاً، وكلُّ جملةٍ أرخبيلٌ من الدلالاتِ التي ترفضُ أن تُسجَّلَ في دفترِ الملاحة.
لا مرفأَ يُنادي، ولا بوصلةَ تُشير. إنه الإبحارُ في فضاءٍ لغويٍّ تتحطّمُ فيه قوانينُ الجاذبيةِ المعروفة، حيثُ تُرمى خرائطُ اليقينِ من سفينةِ الوعي، ويصيرُ القلبُ شراعًا للرياحِ المجنونة. النصُّ ليس مرآةً تعكسُ وجهَكَ الذي تعرف، بل هو حفرةٌ في جدارِ الكون، تُطلُّ على حدائقَ لغويةٍ لم تُزرع بعد، تشربُ أحبارًا من ظلامٍ لم يولد، حيثُ الأشجارُ تحملُ أوراقًا من لهبٍ بلا حرائق، والأنهارُ تتدفّقُ إلى الأعلى.
أسئلة تولد من دموع المعاني
وهنا، أمامي، أفتحُ بابًا خلفهُ ألف بابٍ، يَشقُّ حجابَ الظنون، ولا أعرفُ أيّها يقودُ إلى الضوء. كلُّ مدخلٍ يُغريني بوعدِ الحقيقة، وكلُّ مخرجٍ يُعيدُ تشكيلَ المتاهةِ من جديد. اللغةُ هنا متعددةُ الوجوه، جنينٍ كونيٍّ يدورُ في رحمِ الأزل، كلّما ظننتَ أنك أمسكتَ بسرِّها، انفلتَ من بين يديكَ كبلورةٍ ضخمةٍ تدورُ بها عيناك فترى عوالمَ متشظيةً في انعكاسات لا تُحصى. أيُّ طريقٍ يسلكُ المعنى؟ وأيُّ مسلكٍ يفضي إلى جوهرٍ ثابت؟
الضوءُ المنشود يتراءى خلف كلِّ عتبةٍ، ويتراقصُ خلفَ كلِّ حاجزٍ كشهقةٍ أخيرةٍ لنجمٍ محتضر، لكنّ كلَّ خطوةٍ نحوَه تلدُ ألفَ ظلمةٍ جديدة. أليس هذا مصيرَ المتأمل، الباحثِ عن يقينٍ في مملكةِ الاحتمال اللامتناهي؟
أليس هذا قدرَ العابدِ في محرابِ اللغة؟ أن يَسْجُدَ على أعتابِ اليقينِ وهو يعلمُ أنَّ كلَّ سجدةٍ تبتعدُ به عن الحقيقةِ بقدرِ ما تقترب. كمن يطاردُ سرابًا في صحراءِ مرايا، كلّما انكسرَ انعكاسٌ في مرآة، وُلِدَتْ مرآةٌ أخرى من دموعِه.
أليس هذا هو العشقُ الحقيقي؟ أن تُقبِّلَ أعتابَ كلِّ بابٍ وأنت تعلمُ أنَّ القبلةَ ستحرقُ شفتيك، لكنّ الشفاهَ تحترقُ لتنبتَ عليها أقواسُ قزحٍ جديدة.
سيرة التيه في أسواق بابل السرية
فأخطو داخل اللغةِ كغريبٍ وُلد للتوّ بين أسوارِ مدينةٍ أسطورية. خطواتٌ حذرةٌ على أرصفةِ المفردات، نظراتٌ قلقةٌ نحو سطوحِ التراكيب العالية. أحذو حذوَ النملةِ على سجادةٍ فارسية، كلُّ خيطٍ يخبئُ كونًا، وكلُّ عقدةٍ تُخفي قِصّةً لم تُحكَ بعد. الأرصفةُ هنا مصنوعةٌ من أحجارِ القواميس المنسية، والنوافذُ تتنفّسُ بنبضِ المعاجم القديمة. كلُّ شارعٍ (جملة) يحملُ عبقًا غريبًا، ويفرشُ بساطًا من أسئلةٍ مُذهّبة، وكلُّ زقاقٍ (استعارة) يُخفي أسرارًا، ويُضيءُ مصابيحَه بلغةٍ لا تُشبهُ لغاتِ البشر.
الغريبُ هنا هو مستكشفٌ لمملكةٍ ذات قوانينَ خفيةٍ، حيث الإشاراتُ مبهمةٌ واللهجاتُ متعددةٌ. هو ليس عابرَ سبيلٍ، بل هو طفلٌ يلهو بكراتِ الزجاجِ الملوّنة في حديقةِ بابل. اللغةُ مدينةٌ بلا دليل، تُبهرك بفوضى نظامها، وتحيّرك بدقةِ فوضانا. تُبنى وتنهارُ في كلّ طرفةِ عين، قوانينُها تكتبها أطيافُ الحروفِ على جدرانِ المعبد المهجور. تُبهرني بعناقيدِ كرومِها الذهبية، ثمّ تتركني عطشانَ أمام نافورةٍ تجري بالزئبقِ لا بالماء.
التيهُ هنا ليس ضياعًا، بل هو شرطُ الوجود في حضرةِ المجهول الجميل. هو العثورُ على جرحٍ لم يندمل بعد، واللعبُ بأطرافِ ندوبِه الملتهبة. كلّ خطوةٍ تذكّرني بأنّي لستُ ضائعًا بما يكفي، وأنّ المدينةَ لن تكتملَ إلا حين أختفي أنا بين شقوقِ أحجارِها الناطقة.
وهكذا أجدني أتجوّل في فضاء اللغة اللامتناهي، فضاءٌ لا يحده مكان، فأُبحِرُ في مياهٍ ترفضُ أن تعترفَ بوجود بَرٍّ. ليس هذا يأسًا من الوصول، بل هو استسلامٌ وثيقٌ لِجدليةِ الأمواجِ التي لا تتوقّفُ عن التساؤل. هذه المياهُ – لُجَّةُ المعنى التي لا تنفكُّ تتدفّقُ كأنفاسِ كونٍ حديثِ الولادة – تَسْخَرُ من فكرةِ اليابسةِ النهائية، من تلكَ الجُزُرِ الوهميةِ التي نسمّيها "حقائقَ مطلقةً". كلّما ظننتَ أنكَ أمسكتَ بحَصاةٍ من قاعِها، إذا بها تذوبُ بين أصابعكَ، وتتحوّلُ إلى نُجومٍ تائهةٍ في مجرّةِ لغةٍ أخرى.
هنا، كلُّ تيارٍ يقودُكَ إلى تيارٍ أعمق، وكلُّ غوصٍ يفتحُ أمامكَ كوّةً إلى محيطٍ آخر. اللغةُ لا تنتهي عند شطٍّ، بل تتمدّدُ كالزمنِ نفسِه: لا تُقاسُ بالمسافاتِ، بل بالانكساراتِ التي تُحدثُها في مرآةِ الذات. الاعترافُ بالبَرِّ هنا ليس مجرّدَ خيانةٍ للرحلة، بل هو إنكارٌ لتلكَ المعجزةِ التي تجعلُ من الضياعِ وَطَنًا، ومن العُبورِ غايةً.
فالإبحارُ في هذه المياهِ ليس بحثًا عن ميناءٍ نُرسي فيه، بل هو تعلُّمٌ لِأن نعيشَ في المدّ والجزرِ كالأسماكِ التي لا تعرفُ الخوفَ من الغرقِ، لأنّ الماءَ هو هواؤها، واللُّجَّةُ هي رئتاها. المعرفةُ هنا ليست محطّةً نصلُ إليها، بل هي الحَرَكَةُ ذاتُها، التّيّارُ الذي لا يهدأُ، والموسيقى التي لا تُكرّرُ نفسَها أبدًا.
فهل ثمّةَ إبحارٌ أكثرُ جمالًا من ذلك الذي لا يُريدُ أن ينتهي؟ وهل ثمّةَ لغةٌ أكثرُ حياةً من تلكَ التي ترفضُ أن تتجمّدَ في معنى؟
وكلما تعمّقتُ في هذه اللجّة، وجدتُ نفسي في حضرة اللغة الأزلية، أغوصُ في محيطٍ لا يرد الغارقين. الغوصُ هنا ليس هروبًا، بل هو انكسارُ الأقنعةِ كلِّها أمام مرآةِ اللانهاية. المحيطُ الذي لا ذاكرةَ له يبتلعُ كلَّ محاولاتِ التملكِ كأنها فقاعاتُ هواءٍ تائهة، ويرفضُ ردَّ الغارقين إلى سطحِ اليقينِ الضحلِ حيثُ تُباعُ الخرائطُ بثمنٍ بخس. في أعماقه، حيثُ يسكنُ الصمتُ الأعظمُ كأنه القلبُ النابضُ للكون، يتلاشى الفرقُ بين الغرقِ والخلاصِ، بين الفهمِ والجهلِ، كأنما الأعماقُ قد ابتلعتْ كلَّ الثنائياتِ وأعادتْ صهرَها في بوتقةِ اللازمان.
الغرقُ هنا ليس فناءً، بل هو ذوبانُ السّابحِ في كينونةِ اللغةِ نفسها، في محيطها الأصليّ الذي يسبقُ الكلماتَ ويعقبُها، كحلمٍ يسبقُ الولادةَ ويَلحقُ بالموت. الغريقُ في هذا العمقِ يصبحُ جزءًا من اللغزِ، كالملحِ الذي يذوبُ في الماءِ فيصيرُ الماءَ نفسَه. هو قطرةٌ في محيطٍ لا ذاكرةَ له، تُنصتُّ إلى همساتِ الحروفِ الأولى قبلَ أن تتشكّلَ أبجدية. شاهدةً على سرٍّ لا يُفصحُ عن قراره، كأنها تقفُ على حافّةِ ولادةِ كونٍ جديدٍ من رحمِ العدم.
النصُّ السرمديُّ يُصبحُ مرآةً لغرقنا الجميل: لا شاطئَ له، ولا ضفافَ، بل هو المدُّ والجزرُ الأبديُّ الذي يحملُنا من لا معنى إلى لا معنى، كي نكتشفَ أنَّ الجمالَ كلَّه في تلكَ الرحلةِ التي لا تنتهي. وقبل أن تستقر الأجوبة، تتهاوى الأسئلة من جديد.
مزاميل السؤال في محراب الكلام
هذه هي حكايةُ اللقاءِ مع اللغة: غوصٌ في نسيانٍ يُشبهُ ولادةً مقلوبة، رحلةُ الغريبِ في مدينةِ الكلماتِ أشبهُ بسيرِ النورِ في متاهةِ المنشور، حيثُ ينكسرُ المعنى في كلّ منعطفٍ إلى ألوانٍ لم تُكتشفْ بعد. كلُّ بابٍ يُغري كحلمِ عاشق، وألفُ بابٍ يُحيّرُ كأسرارِ الأنبياء. واللغةُ هنا ليست أداةً، بل هي الفعلُ نفسُه - ولادةٌ مستمرةٌ ترفضُ أن تصيرَ ذكرى.
وفي القلبِ من هذا كلّه، سؤالٌ يتوهّجُ كنجمٍ بحريٍّ يُضيءُ من الأعماق: أليس الجمالُ الحقيقيُّ يكمنُ في تلكَ اللحظةِ التي تدركُ فيها أنك لن تصل، فتُمسكُ يدَ اليقينِ لتغرقَ معه في بحرِ الأسئلة؟ أليست اللغةُ هي اللاوصولُ بعينه، والمتعةُ كلّها في ذلكَ العطشِ الذي لا يُروى؟
أليس العمقُ هو القاعُ الذي لا قاعَ له، حيثُ تتحوّلُ كلُّ إجابةٍ إلى ألفِ سؤال، وحيثُ المعرفةُ الحقيقيةُ هي أن تعرفَ أنك لا تعرف؟ هنا، في هذا اللا مكان، تصيرُ الكلماتُ أجراسَ معبدٍ غارق، تُنادي إلى صلاةٍ لا تنتهي، صلاةِ العاشقِ الذي يعلمُ أن الحبَّ ليس وجهةً، بل هو الطريقُ نفسُه حين يذوبُ في خطواتِ السالكين.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق