حين يتحوّل الغياب الى حضور!
على الشرفة، كرسيٌّ فارغ يتأرجح ببطء، كأن الريح تحاوره في غياب صاحبه. فنجان قهوة بارد ينتظر يدًا لن تعود، والنافذة نصف المفتوحة تسمح لضوءٍ باهت أن ينساب إلى الداخل… لا أحد هنا، ومع ذلك، ليس المكان خاليًا تمامًا. ثمة ما يملأه، حضورٌ لا تراه العين، لكنه يضغط على القلب برفق، كأنه يذكّرك أنك لست وحدك.
تسأل نفسك: هل الغياب حقًا فراغ، أم أنه بداية لشكلٍ آخر من الامتلاء؟ هل تنتهي الحكاية حين يغلق أحدهم بابه الأخير، أم أن الحكاية تمتدّ داخلنا بطرق لم نكن نعرفها من قبل؟
عند العتبة الأولى للغياب… يبدأ شكل آخر للحياة.
عند عتبة الغياب… يبدأ الحضور
حين يغادرون، لا ينطفئ أثرهم كما يظن البعض، بل يتحول إلى ضوء خافت يرافقنا في الطرق المظلمة. نكتشف فجأة أن الحضور لا يُقاس بالمسافة ولا بالزمن، بل بالقدرة على أن يتسلل أحدهم إلى تفاصيل يومنا حتى وهو بعيد. كلمةٌ كانوا يرددونها، حركة يد عابرة، نظرة كانت تقول أكثر مما تسمح به الحروف… كلها تعود إلينا، لا كذكرى جامدة، بل كنبض حيّ.
إننا لا نلتفت إلى ملامح هذا الحضور إلا بعد أن يغمرنا الغياب، وكأن الصمت يضبط عدسة القلب ليرى ما كان مشوشًا وهو قريب. نبدأ بسماع أصواتهم في زحمة الشوارع، ورؤية ظلهم في الأبواب التي تُفتح فجأة، وملامسة روحهم في لحظة دفء تأتي بلا سبب.
الحضور الذي يولد عند عتبة الغياب ليس وهمًا، بل هو صدى عميق للذكريات، وقوة خفية للقيم التي تركوها فينا. وربما لهذا، يصبح الغياب أحيانًا المرآة التي نرى فيها وجوههم بوضوح أكبر.
ورثتك صمتًا… فصار صوتي
لم تترك لي كلماتٍ كثيرة، لكنك تركت مساحات من الصمت أتعلم فيها الإصغاء. كنتُ أظن أن الإرث يُقاس بما يمكن لمسه أو امتلاكه، حتى أدركت أن أثمن ما ورثته عنك كان ما لم يُقال. في صمتك كانت الحكمة، وفي غيابك كان الامتحان، وفي داخلي كانت البذرة التي أنبتتها أيامك.
ذلك الصمت لم يبقَ جامدًا، بل تحول مع الوقت إلى صوتي أنا. صرتُ أردد عباراتك في المواقف الصعبة، وأتخذ قراراتك دون أن أستشيرك، كأنك ما زلت تمليها عليّ من مكانك الخفي. حتى نبرة الضحك التي كنت أعرفها جيدًا، تسللت إلى ضحكتي، وكأننا نتقاسم الحبال الصوتية.
لم أعد أحتاج أن أسمعك لتكون حاضرًا. أنت في انحناءة كتفي حين أتعثر، وفي طريقة نظري إلى الأفق حين يضيق بي المكان. أنت في صمت اللحظات التي أبحث فيها عن قوة، وفي الكلمات التي أقولها للآخرين دون أن يعرفوا أنها ليست لي وحدي.
العبور لا الموت
كنتُ أظن أن الموت بابٌ يُغلق إلى الأبد، حتى اكتشفت أنه ممرّ، عبور هادئ من ضفة إلى أخرى، حيث لا نملك أن نرى المدى، لكننا نشعر بأن هناك حياةً أخرى تجري في مكانٍ ما. الفقد لا يُطفئ الوجود، بل يغيّر شكله. من كانوا يشاركوننا المقاعد صاروا يجلسون في داخلنا، يطلّون على العالم من خلال أعيننا، ويكملون الطريق بأقدامنا.
الموت ليس اختفاءً، بل إعادة توزيع للحياة بين الأحياء. كل ضحكة تخرج منّا وقد تعلمناها منهم، كل اختيار نافع تذكّرنا به نصائحهم، كل دمعةٍ تمسحها يدنا عن وجه شخص آخر… هي امتداد لحياتهم فينا.
أراهم كمسافرين يعبرون جسرًا من ضباب، يلوّحون من بعيد، ثم يذوبون في البياض. لا أراهم تمامًا، لكنني أسمع وقع خطواتهم يسبقني، كأنهم يمهّدون الطريق. وحين أصل إلى منتصف الجسر، لا أشعر بالوحدة، لأن صدى عبورهم يرافق عبوري أنا.
في حضرة من لا يغيب
هناك مقاعد لا تُشغل أبدًا، لأنها ليست في المكان، بل في القلب. بعض الأشخاص لا يغادرون مهما ابتعدت المسافات أو توالت الأعوام، يظلّون جالسين في الصفوف الأولى من أرواحنا، يراقبون، يبتسمون، ويدفعوننا للأمام بطرق لا نراها. نحن نحملهم في مشيتنا، في قراراتنا، في تلك اللحظة التي نرفع فيها رأسنا بثقة وكأننا نستمدها منهم.
لقد أدركت أن الحضور الحقيقي لا يحتاج إلى جسدٍ أو ظلّ، يكفي أن يكون هناك أثر لا يتزحزح، فكرة لا تموت، أو دفء لا يبرد. من نحبّهم يعلّموننا أن نكون امتدادهم، وأن نستمر في الحياة كأننا نمثّلهم على مسرح لا ينتهي.
وهكذا، لا يعود الغياب غيابًا، بل يصبح شكلًا آخر للحضور… حضورٌ أعمق، لا تراه العين، لكن القلب يعرفه ويوقّره. وفي كل مرة أظن أنني وحيد، أسمع وقع خطواتهم داخلي، فأبتسم… وأمضي.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق