ظلّنا الثقيل!
"رحلة استكشافية لفكّ تناقضات الحب والتضحية"
وقف ظلّنا عند بوابة القلب، حارسًا من صخر، يطلب تصريح مرور إلى أعماقنا.
أتينا نحمل قوارير دواء يزعم الشفاء، لكن رائحة السمّ كانت تفوح من أعماقها.
"ابتلعوا"، يقول، "لتُبعث أرواح وتفنى أخرى"... يا لقسوة المعادلة: حياتنا قربانٌ على مذبح حبٍّ يطلب نهاية التدفق.
في الليالي المثقلة بأرقٍ كالرصاص، جلسنا مع حكيمة قديمة تسكن صمتنا.
بدت كشجرة باسقة متجذّرة في أعماق الزمن، أغصانها تلامس سماء الأسئلة الوجودية.
ضحكت، وكان ضحكها كخرير ماء بارد في صحراء الروح:
أتعجبون؟
هل رأيتم طبيبًا يقدّم للمريض دواءً سامًّا باسم الشفاء؟
هذا ليس حبًّا، يا أبناء الوجود... هذا اغتيال مُعلَن بالرصاصة البيضاء، اسمها "الوفاء".
ومن دهشة الحكمة إلى إشهار الحقيقة، انفتح أمامنا باب آخر...
باب يقود إلى قاعة تتراقص فيها الرموز على أنغام الخداع.
قاعة عرش مهيبة.
نجلس على كراسٍ من زجاج هشّ.
أمامنا، الجلّاد الحبيب يمدّ كؤوسًا متلألئة بشرابٍ بلون الدم.
"اشربوا"، يهمس... ففي مرارتكم خلاصه.
حولنا، خَدَمٌ من ظلالٍ تصفق بحماس، تردّد: البطولة! التضحية! الحب الأسمى!
لكنّ الكؤوس تنمو منها أشواكٌ سوداء تلتفّ حول معاصمنا.
كلّ رشفة تُحوّل جزءًا من زجاج مقاعدنا إلى غبار.
سنَسقط قريبًا... والظلال تصفق.
من سقف القاعة، مخلوق غريب... نصفه طائر العنقاء، ونصفه الآخر نسناس مهرّج.
يخطف الكؤوس بذيله الملوّن، ويرميها أرضًا.
الشراب ينسكب... فينبت مكانه فطر سامّ، يغنّي بصوت مزعج:
هذا حبٌّ أعرج! مكسور الجناح!
يطلب الموتَ ويسمّيه إنجاح!
ثم يلتفت إلينا، وعيناه جمرتان متقدتان:
لماذا نشرّع أبواب قلوبنا لسكين؟
ألم نسمع صراخ الزجاج وهو يُطحن؟
لقد عشنا في ممالك الصمت العقابي، نتعذّب عطشًا إلى كلمة حنون، إلى سؤال عن حالنا،
بينما العالم يرى علامات حيوية على الحياة.
لم يعرف... أو لم يُرد أن يعرف... أن وراء أقنعة الضحك المتكسّر، هناك أرواح تُسحق تحت ثقل القسوة.
هل يعقل أن الغرباء يرون ما نخفيه، بينما الحارس الأقرب يتعامى في وضح النهار؟
لكن الحكمة في الأعماق همست كالريح بين الأوراق:
لا ننتظر استجوابًا من عمى القلوب.
النجاة ليست في أن نموت ليحيا آخر، بل في أن نحيا نحن.
الحب الحقّ لا يسرق الشمس من كبدنا ليدفئ نفسه؛ بل يفرح لأنّ شمسنا تظل مشرقة،
قادرة على العطاء ونحن كاملون... لا أشباحًا تجرّ أذيال الندم على ساقين واهنتين.
لذا، ها هو قرارنا، مُعلَنًا على مَلأ الوجود، كصرخة في وادٍ سحيق،
لكنّ صداها يهزّ جبال الخوف:
لن نتناول الجرعة المميتة.
سنمضي.
لا هروبًا من معركة، ولا خيانةً لوعد، بل هجرةً مقدّسة نحو ينابيع بقائنا.
سَنبحث عن دوائنا بين صفحات الكتب القديمة، في همسات الفجر، في عرق جباهنا،
في دموع تذوب حقيقةً لا زيفًا.
سَنحمي الضوء الخافت في صدورنا – هذا الشرر الإلهي الذي به نُنير، وبه نحبّ، وبه نغيث.
نترك الآخرين يبحثون عن شفائهم في غيابنا.
ربّما في صمت فراقنا، يسمعون أخيرًا صوت جراحهم الحقيقية، لا صدى آلامنا نحن.
ربّما يجدون الدواء الذي لا يُبيد روحًا ليبعث أخرى.
فالشفاء لا يُبنى على جثث الأحياء.
والطريقان أمامنا؟
كلا! لسنا محصورين في ثنائية موت أحمق.
هناك طريق آخر: طريق وعِرٌ شائكٌ، يتسلّق جبل الذات.
طريق يُعيد إلينا ملكية أرواحنا، ويرمّم الزجاج المهشم بعناقيد الصبر.
فيه نموت عن ذلّ التضحية الزائفة، لنُبعث كائنات قادرة على الحب من فائض، لا من فراغ.
الوفاء الأصدق ليس موتنا على مذابح الآخرين، بل أن نحمي قدرتنا على الحب ذاته،
حتى لو اضطرنا ذلك لأن نحبّ من بعيد، ونحن على قيد الحياة.
وربّما نلتقي يومًا، بعد أن تشفى الجراح... لا جرحى ولا أموات،
بل شمسين تعلمان فنّ البقاء دون إطفاء نور الآخر.
عندها، سنضحك معًا على ظلّ السؤال الثقيل الذي طفا، ذات يوم،
على سطح حياة كادت أن تُباد باسم الحب.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق