رقْصةُ الزجاجِ والماسِ: فنُّ البقاءِ جميلًا في زلازلِ الوداعِ!
تخيَّلْ معركةً تدورُ رَحاها في صمتٍ. في الداخلِ: أعاصيرُ تُمزِّقُ الجذورَ، صفّاراتُ إنذارٍ تصرخُ في الفراغِ، زلازلُ تُشقِّقُ أرضَ اليقينِ. وفي الخارجِ: نسيمٌ هادئٌ، عينانِ لا ترتجفانِ، يدٌ لا ترتعشُ عندَ تسليمِ قهوةِ الصباحِ. هذهِ هي حربُ المشاعرِ الحقيقيةِ، حيثُ لا تُقاسُ الانتصاراتُ بمنْ يصرخُ أعلى، بل بمنْ يُحافظُ على أناقةِ روحهِ وهوَ يسيرُ فوقَ حُطامِ قلبهِ.
الكرامةُ هنا ليستْ مجرَّدَ رداءٍ نلبسهُ، بل هي فنٌّ وجوديٌّ لرسمِ حدودٍ بينَ فوضى المشاعرِ وقداسةِ الذاتِ. كيفَ لا تنكسرُ المرآةُ حينَ ينعكسُ عليها وجهٌ مشوَّهٌ بالألمِ؟ هذا هو السؤالُ الذي يُعيدُ تشكيلَنا.
الانهيارُ العاطفيُّ ليسَ عارًا؛ إنَّهُ إعصارٌ بشريٌّ مشروعٌ. لكنَّ الفرقَ بينَ الضحيةِ والبطلِ هنا لا يكمنُ في حجمِ الألمِ، بل في نوعيةِ السقوطِ. هل تسقطُ كحزمةٍ مُبلَّلةٍ على قارعةِ الطريقِ؟ أم تسقطُ كبذرةٍ في التربةِ - مُمزَّقةً لكنَّها مُحتفِظةٌ ببصمةِ كيانِها؟
الكرامةُ العاطفيةُ ليستْ إنكارًا للجرحِ، بل هي جراحةٌ دقيقةٌ تفصلُ بينَ "أنا انكسرتُ" و"أنا دُمِّرْتُ". هي ذكاءٌ فائقٌ يمنعُ الدمَ الداخليَّ منَ التشَرُّبِ في ملابسِ العلنِ. تُشبهُ بحّارًا يشهدُ غرقَ سفينتهِ، لكنَّهُ يرفعُ عَلَمَها حتى اللحظةِ الأخيرةِ، ليسَ نفاقًا، بل لأنَّ بعضَ الأعلامِ لا تُنَكَّسُ حتى في الأعماقِ.
هذهِ الأناقةُ ليستْ قسوةً على الذاتِ، بل هي رحمةٌ عُليا. حينَ تُمسكُ دموعَك عندَ حافةِ الجفنِ، لا تكبحُ المشاعرَ، بل تُعلِّمها "رقصةَ التوازنِ" بينَ الانفجارِ والانضباطِ. في هذا الفضاءِ الرفيعِ، تُولدُ معجزةٌ: المشاعرُ لا تختفي، بل تتحولُ إلى طاقةٍ صامتةٍ كالفحمِ المُتحجِّرِ تحتَ الضغطِ، تبني منكَ تمثالًا أقوى.
انظرْ إلى المرأةِ التي تُودِّعُ حبيبًا خانَها بابتسامةٍ لا تشي بزلزالِها. ليستْ مُنافقةً، بل هي تُمارسُ أعلى درجاتِ السيادةِ على مملكةِ مشاعرِها. تعرفُ أنَّ تناثرَ الزجاجِ الداخليِّ لا يُبرِّرُ إيذاءَ الآخرينَ بشظاياهُ. تعرفُ أنَّ كرامتَها ليستْ ردَّ فعلٍ عليهِ، بل حدٌّ فاصلٌ بينَها وبينَ الفوضى.
إنَّها مفارقةٌ عابرةٌ للقرونِ: أعمقُ أحزانِنا تُنتجُ أرقى أشكالِ الجمالِ الإنسانيِّ. تلكَ اليدُ التي ترسمُ خطَّ الرصاصِ بوضوحٍ وهيَ ترتجفُ، ذلكَ الصوتُ الذي يُغنِّي بثباتٍ وهوَ يحملُ ألفَ انكسارٍ، تِلكَ العينانِ اللتانِ تلمعانِ كالنجمتينِ في ليلةِ فراقٍ مُظلمةٍ... وكأنَّهما قِطَعٌ من زجاجٍ صامتٍ.
ليستْ قسوةً، بل هي "شجاعةٌ ناعمةٌ" تُحوِّلُ الألمَ إلى بيانٍ بصريٍّ عن معنى الصمودِ. كأنَّهم يقولونَ للعالمِ: "نعم، قلبي تحطَّمَ، لكنِّي ما زلتُ أملكُ إصبعًا يُشيرُ إلى النجومِ". هنا تكمنُ الأناقةُ العاطفيةُ: في تحويلِ الانهيارِ إلى أداءٍ مُقدَّسٍ للكرامةِ، حيثُ تكونُ أنتَ الفنانَ والعملَ الفنيَّ في آنٍ.
وفي لحظةِ الوداعِ القاسيةِ، تتجلَّى ذروةُ هذا الفنِّ. الوداعُ الجميلُ ليسَ خداعًا، بل هوَ آخرُ هديةٍ تُقدِّمُها لنفسِكَ قبلَ أنْ تُغلِقَ البابَ. هوَ أنْ تسمعَ صوتَ البابِ يُغلَقُ وراءَكَ دونَ ارتعاشةٍ.
هو أنْ تمسحَ دموعَكَ بظهرِ يدِكَ، وتنظرَ في عيني مَنْ جرحَكَ، وتقولَ بكلماتٍ واضحةٍ كالبلورِ: "شكرًا". ليسَ لأنَّ الألمَ لم يكنْ حقيقيًّا، بل لأنَّ كرامتَكَ أكبرُ منْ أنْ تنحنيَ للانتقامِ.
هو أنْ تحملَ حقيبةَ ذكرياتِكَ بيدٍ ثابتةٍ وكأنَّكَ تحملُ مخطوطةَ تاريخِكَ الخاصِّ التي لنْ تدعَ أحدًا يُشوِّهُها. الوداعُ بهذهِ الأناقةِ هوَ انتصارٌ مُزدوجٌ: تدفنُ ما ماتَ، وتُحافظُ على ما يخلُدُ فيكَ - كرامتَكَ.
فإذا رأيتَ يومًا إنسانًا ينهارُ من الداخلِ كزجاجٍ مُطرَّقٍ، لكنَّهُ يسيرُ في العالمِ كالماسِ المصقولِ، فاعلمْ أنَّكَ أمامَ أعظمِ فنّانٍ في حربِ المشاعرِ. لقدْ حوَّلَ انكسارَهُ إلى إكليلٍ شفّافٍ يُكلِّلُ رأسَهُ. هوَ لا يُخفي التشققاتِ، بل يملؤُها بذهبِ الكبرياءِ، فيجعلُها خريطةً مُضيئةً لرحلتِهِ عبرَ العاصفةِ.
وفي النهايةِ، حينَ يُغادرُ ساحةَ المعركةِ بظهرٍ مُستقيمٍ وقلبٍ ينزفُ، تُدرِكُ أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ ليسَ في عدمِ السقوطِ، بل في طريقةٍ تُلملمُ بها أشلاءَكَ وأنتَ تُلوِّحُ للعالمِ:
"انظروا! هذهِ هي الكرامةُ... تنزفُ جوهرًا ولا تتدنَّسُ بالوحلِ".
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق