الظل الذي لا ينحني!
في اللحظة التي تتحول فيها الريح إلى عاصفة، ويصبح السير كالعبور في حقل من الشظايا، تبرز القوة الحقيقية كشجرة عتيقة تعانق السماء بصبر الأزل، لا تنحني، ولا تنكسر.
إنها ليست القوة التي تعلن عن نفسها بصخب، بل تلك التي تظل واقفةً، هو ظلٍّ وفِي، حتى عندما يغفل الجميع عن مصدر النور الذي يمنحها وجودها.
ليست العظمة في أن تمد يدك حين يُطلب منك العطاء، بل في أن تبقى يدك ممدودةً حتى عندما يُغلَق الباب في وجهك. فالدعم الحقيق لا يشبه المطر الذي يهطل ثم ينقطع، بل يشبه النهر الجوفي الذي يسري في أعماق الأرض، صامتًا، لا يعلن عن نفسه إلا حين تنحني الجذور عطشًا فتجدّه هناك، حاضرًا بلا ضجيج. إنه ذلك التواجد الذي لا يحتفي بذاته، يُشبه الفجر الذي لا ينتظر دعوة.
وما أكثر الذين يظنون أن الابتعاد كفيلٌ بمسح الذكريات، كأنما القلوب صحائفُ تُقلبُ فتُنسى. لكن الحقيقة هي أن بعض الأرواح لا تغادر، حتى عندما تختفي عن العين. إنها تظل كرائحة الياسمين في الليل: لا تُرى، لكنها تُلمسُ بالروح. وهنا تكمن المفارقة: أن تُحب دون أن تمتلك، وأن تدعم دون أن تنتظر مقابلًا، كالنسيم الذي يمرّ فيغيّر ولا يطلب من الزهرة أن تشهد له بالعطر، أو مثل منازل النجوم في اللجج التي تُضيء دون أن يعرف أن أحدًا رفع رأسه إليها.
ثمّة لحظاتٌ نحسبُ فيها أن الصمت خيانة، أو أن البعد نسيان، لكنّ الحياة تُعلّمنا أن بعض الأشياء جبلية الثبات، تبدو من بعيدٍ صامتةً جامدة، لكنّ في أعماقها نبضٌ لا يفتر. فهل يُلام النهر لأنه لا يجري إلا في مجراه؟ أو يُلام الظل لأنه لا يظهر إلا حيث يوجد الضوء؟ إنها حكمة الوجود التي تعلّمنا أن الثبات ليس دائمًا في الظهور، بل أحيانًا في الاختفاء الذي يحمل في طياته حضورًا لا يتبدّد.
في النهاية، ليست المسألة مسألة ثباتٍ في العلن فحسب، بل صمود في الخفاء أيضًا. أن تظل كما أنت، حتى عندما لا يراك أحد، كتاب مغلق يحتفظ بحروفه داخله، بانتظار من يفتحه ذات يوم فيجدها كما هي، لم تتغير، لم تتبدل، وصية قديمة كتبتها الأقدار بحبرٍ من ذهب. إنه ذلك الإصرار الهادئ على البقاء، مثل بذرةٍ تُزرع في الظلام، لا تعرف متى ستنبت، لكنها تعرف أن مصيرها النمو.
فإن كان لنا أن نستخلص حكمةً، فلتكن أن الحب الأصيل لا يبحث عن شاهدٍ، وأن العطاء الحقّ لا ينشد برهانًا. هو كينونةٌ بلا قيود... كالماء يرتوِي به العطشانُ قبل أن يسأل عن اسم النبع. ويُشبه الضوء الذي يسبق العينَ المُبصرة فينساب نوره في عروق الوجود، ويُذكّر بحنين الرياح الذي لا ينتظرُ إذناً ليعانق الأغصان.
إنّه ذلك الصمتُ الذي يختزلُ في أعماقه قصائدَ لم تُنطق، وذلك البُعدُ الذي يتحولُ في الحنينِ إلى وطن، كالوردة التي تمنح عطرها حتى لمن لا يرى جمالها.
ليست العبرة في عدد مرّات سقوط الشجرة، بل في إصرار جذورها على التشبث بالأرض. وليس المهم في غياب القمر، بل في عودته كل ليلة، ليُذكّرنا أن بعض الأشياء تظلّ حيّةً حتى في غيابها.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق