القلبُ رسّامُ الخرائط الخفي!
في أعماقِ كلٍّ منّا، يعملُ قلبُه كرسّامٍ لا يُرى، يخطُّ بتؤدةٍ حدودَ العلاقاتِ بخيطانٍ من نورٍ وظلام. لا يستخدمُ قلَمَ رصاصٍ أو فرشاةً، بل يغمسُ أنامله في مدادٍ من دمٍ وذكريات، فيرسمُ تضاريسَ العاطفةِ بلا مسطرةٍ أو مقياس.
هنا جبالُ الوصالِ الشاهقة، وهناك وديانُ الفراقِ السحيقة، ووسطَ ذلك كلِّه، تنتشرُ طرقٌ متشعبةٌ من الحنين، تُضاءُ بمصابيحَ من ألمٍ خافتٍ، كأنّها نجومٌ سقطتْ من سماءِ الذاكرةِ فعلقَتْ بين الضلوع. ومع ذلك، هناك بقعٌ مضيئة، كواحاتٍ صغيرة، حيثُ ما زالت ضحكةٌ قديمةٌ تتردّد كنسيمٍ يهبُّ من ماضٍ لم يخنه الوقت بعد.
القلبُ ليسَ مجرّدَ مضخةٍ للدم، بل هو ناسخُ الخرائطِ الأعظم. ينسخُ تفاصيلَ الوجوهِ التي أحببناها، والأصواتِ التي ارتسمتْ في أعماقنا، ثمّ يطويها كخريطةٍ قديمةٍ في جيبِ الزمن. لكنّ هذه الخرائطَ لا تُقرأُ بالعيون، بل بالجروحِ والأحلام.
المسافةُ بين قلبين لا تُقاسُ بالأميال، بل بثقلِ الغيابِ وطولِ الانتظار. وكلّ نبضةٍ هي بوصلةٌ تشيرُ إلى اتجاهٍ مفقود، وكلّ ذكرى هي علامةٌ على طريقٍ لم نعدْ نستطيعُ سلوكَه، إلا في الحلم حين يهبّ نسيمٌ خفيف، فنجد أنفسنا فجأة على عتبة اللقاء كما كان أول مرة.
في مختبرِ القلبِ الدائمِ، يعملُ المنقّبُ عن الذكرياتِ دون كلل. يحفرُ في طبقاتِ الماضي بحثًا عن لحظةِ اكتمالٍ ضائعة، أو نظرةٍ لم تُفهمْ حينها. لكنّ أدواتِه ليستْ معاولَ، بل شظايا من أسئلةٍ بلا إجابات: لماذا يبقى الحبُّ على قيدِ الذكرى بينما نموتُ نحنُ من الغياب؟ ولماذا نستطيعُ أن نرسمَ كلَّ شيءٍ إلا حدودَ اللقاءِ الأخير؟
ومع ذلك، لا يخلو المختبر من لحظات اكتشاف نادرة، كأن يجد القلبُ فجأة ملامحَ ابتسامةٍ نسيها، أو نغمةَ صوتٍ كانت مغمورةً في الركام، فينبض لحظةً كما لو عاد الزمن إلى الوراء.
هذا المهندسُ المختبئ في الضلوع لا يبني بالحجارةِ أو الخرسانة، بل بخيوطٍ نابضةٍ من الشوقِ والوجع. أحيانًا، يخطئُ في تقديرِ متانةِ الجسورِ التي يشيدها بين القلوب، فتتهاوى تحت وطأةِ ريحٍ عابرة، أو تنهارُ تحت ثقلِ صمتٍ طويل.
وأحيانًا أخرى، يُضفي على خرائطِه ألوانًا وهميةً من الأمل، فيخيّلُ لنا أنّ الوصولَ ممكن، حتى إذا اقتربنا، اكتشفنا أنّ كلَّ الطرقِ تؤدي إلى فراغ. ومع ذلك، يبقى هناك ممرّ ضيق، لا يظهر على الخريطة إلا في لحظات الصدق، يقودنا فجأة إلى دفءٍ غير متوقّع، ككوخٍ صغير على حافة البرد.
في النهاية، لا تُختزلُ خرائطُ القلبِ بخطوطٍ أو ألوان. إنّها وثائقُ حربٍ خاضتها الأرواحُ قبلَ الأجساد. كلّ ندبةٍ فيها هي قصيدةٌ عن غزْلٍ لم يكتمل، وكلّ طريقٍ مسدودٍ هو حكايةُ لقاءٍ تأخّرَ كثيرًا.
لكنها أيضًا تحتفظُ بمخطوطات سلامٍ قصيرة، اتفاقاتٍ صامتة بين قلبين، حتى لو لم تدُم. وعندما يتوقّفُ النبضُ، تتحوّلُ تلك الخرائطُ إلى أسطورةٍ يحملها العشّاقُ كدليلٍ في رحلتهم نحوَ المجهول:
هنا، تحتَ هذه البقعةِ الصغيرةِ من الجسد، وُلدتْ قارّةٌ كاملةٌ من الحب. هنا، في هذا المكانِ الذي لم يرهُ أحد، رسمَ القلبُ عالمًا بكاملِه، لم يكن كلّه حزنًا، بل كان فيه ضوء يكفي لأن نتذكّره، ثمّ حملهُ معه إلى التراب.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق