بين البوصلة والنجم: دليل العابرين في الحياة!
نداء في عتمة اليقظة:
هل سبقَ، في زحمة صخب الوجود، أن توقفتَ؟ ليس لالتقاط أنفاسٍ منهكة، بل لتسألَ ذلك السؤالَ الذي يهبط كطائرٍ غريبٍ في حديقة الوعي: لماذا؟ لماذا أُثقل كاهلي بهذا العبور؟ ولماذا تتشابك الطرقُ أمامي كجذور شجرةٍ بلا جذع؟
الحياة لوحةٌ نخطُّها بأنامل القصد، وإن بدتْ في غمرة الأيام ضرباتُ فرشاةٍ عشوائية، لأنها ليست حصاةً نرميها في بحر الصدفة، بل أدواتُ رسمنا الأساسية، تلك التي تحدد ملامح اللوحة قبل أن نبلّل الفرشاة، وتكمن في أربعة كواكبٍ روحيةٍ: الرسالة؛ القضية؛ المبدأ؛ المسألة. تلك ليست مجرّد كلماتٍ نردِّدها في ندوات التحفيز، بل أقطابُ مغناطيسٍ خفيٍّ يجذبُ شظايا وجودنا نحو كينونةٍ متماسكة، نحو معنى يلمعُ في عتمة التيه.
الرسالة - البوصلة المنصهرة في روح الكون:
الرسالة. لا تسألني عن المهنة التي أرتزق منها، ولا عن الإنجاز الذي سينقش اسمي على لوحٍ من رخامٍ زائل. الرسالة أبعدُ من بصمة إبهام على وثيقة، وأعمقُ من صدى صيتٍ في أروقةٍ ضيقة. الرسالة همسُ أبديُّ يتردّد في كهف الروح منذ اللحظة الأولى: لماذا أنا هنا؟ أيُّ أثرٍ أريد أن يبقى بعد أن تتبدّد ذرّاتِي في رياح الزمن؟
الرسالة بوصلة الحياة، لا مصنوعةً من إبرةٍ ممغنطةٍ وورقٍ، بل منقوشةً في نسيج كيانك. تشعر بها كذبذبةٍ دافئةٍ في الصدر عندما تلامسُ عملًا ينسجمُ مع جوهرك، كأنّ نوتةً موسيقيةً فريدةً، صماءَ منذ الأزل، قد وجدتْ أخيرًا الآلةَ التي تعزفها، فتفيضُ الكَون لحنًا لم يسمعْه أحدٌ من قبل.
الرسالة ذلك الإحساسُ بأنّ وجودك ليس حادثًا عابرًا، بل لبنةٌ ضروريةٌ في صرحٍ كونيٍّ عظيم، وإن بدت صغيرةً في عين الناظر. والضوءُ الذي ينبعثُ من داخلك ليهدي خُطَاك، حتى عندما تُطبق السُّحبُ الحالكةُ على كلّ منارٍ خارجيّ. والسؤالُ الذي لا يكلّ عن مرافقتك: أيّ أغنيةٍ تُغنّيها للعالم قبل أن يُسدل الستار؟
القضية - النجم الذي يحرق السكينة في الصدر:
ولكن، كيف تسير البوصلة دون وقودٍ يشعل عزم السير؟ هنا يبزغ النجم: قضيتك. ليست مجرّد قناعةٍ عقليةٍ باردة، ولا هوايةً تقضي بها ساعات الفراغ. القضية... ذلك الشيء الذي يُقلقُ
مضجعك، ويُشعلُ في عينيك شررًا إذا ما ذُكرَ، ويجعلُ عروقكَ تلتهبُ غضبًا إذا ما انتهكتْ حرمتُه.
القضية... هاجسٌ يتسلّل إلى أحلامك، والشاغلُ الذي يلاحقك في زوايا يومك. إنها نجم الشمال الخاصّ بك في ليل الحياة الطويل، لا يلمعُ ليراها الجميع، بل ليُرشدك أنت في ظلمات الشكّ والتردّد.
القضية... نبعٌ لا ينضب، يروي ظمأ الروح إلى الفعل، إلى التغيير، إلى البذل، ووقودُك الذي يحوّلُ التوجّه البارد للبوصلة إلى حركةٍ دافئةٍ، إلى سيرٍ متواصلٍ نحو الأفق الذي يلوح لك وحدك.
القضية... شغفٌ يجعلك تقفُ في وجه العاصفة، ليس لأنك لا تخاف، بل لأنّ الصمتَ أمام ما يؤلمك، أو تجاهلُ ما يهمّك، أصبحَ أخطرَ من العاصفة ذاتها. النارُ التي تدفئُ رسالتك، وتحوّلها من فكرةٍ مجرّدةٍ إلى واقعٍ نابضٍ بالحياة.
المبدأ - الجذورُ التي تشرب من صخور الأبد:
لكن، أيّ طريقٍ تسلك نحو نجمك؟ وأيّ وسائلَ تستخدم؟ هنا تنبثق الجذور: مبادئك. ليست شعاراتٍ ترفعها على جدران المكتب، ولا قيودًا ثقيلةً تكبّل حركتك. المبادئ دستورُ غيرِ المرئيِّ يحكمُ اختياراتك، الصغيرة منها قبل الكبيرة. القيمُ الراسخةُ، الصلبةُ كالجرانيت، التي تبني عليها بيتَ وجودك. وجذور الشجرة الضاربةُ في أعماق الأرض، تمدّك بالثبات عندما تعصفُ رياحُ الإغراء أو الإكراه أو اليأس.
المبادئ... سورٌ حامي لرسالتك وقضيتك؛ تحمي البوصلةَ من التشوّه، والنجمَ من الانطفاء، والحارسُ الأمين الذي يقفُ على عتبة قراراتك، يمنعُ دخولَ كلّ ما يناقضُ جوهرك، ولو تزيّن بثياب المصلحة العاجلة، أو المنفعة السهلة.
المبادئُ... تلك الخطوطُ الحمراءُ التي ترسمها في رمال أخلاقك، والتي يعرفُ من حولك – وأنت قبلهم – أن تجاوزها يعني خيانةً للذات قبل أيّ شيءٍ آخر. العهدُ الصامتُ الذي قطعتَه على نفسك مع فجر وعيك، والذي يشكّلُ الهيكل العظميَّ لكرامتك وإنسانيتك.
المسألة - الدرجة التي تئنّ تحت وطأة الصعود:
وفي رحلتك هذه، بين البوصلة والنجم، فوق أرض المبادئ الصلبة، ستواجه حتمًا المسائل: التحديات اليومية، العقبات المفاجئة، الأسئلة المحيّرة، الإخفاقات المؤلمة. ليست المسألةُ نهايةَ الطريق، ولا دليلًا على فشل البوصلة أو خفوت النجم.
المسألةُ... ليست سوى درجةٌ على السُّلم الطويل. قد تبدو عاتيةً كجبل، أو حادّةً كسكين، أو معتمةً كغابةٍ في ليلٍ بلا قمر!، لكنّ جوهرها الحقيقيّ اختبارٌ صارمٌ: اختبارٌ لقوة جذور مبادئك، ووضوح رؤية نجم قضيتك، وصحة توجّه بوصلة رسالتك.
كلُّ مسألةٍ، كلُّ عثرةٍ، معملٌ صغيرٌ للنموّ. فيها تُصقلُ الإرادةُ كالحديد بالنار. وتكتشفُ عُمقَ جذورك وقدرتها على التشبث عندما تهبّ العواصف. وتتعلمُ فنَّ قراءة الخريطة الكونية تحت ضوء نجمك الخاص.
المسألةُ... فرصةٌ مُغلفةٌ بِغِلافٍ شائكٍ؛ قد يجرحُ يديكَ وأنت تفتحه، لكنّ ما بداخله – إن صبرتَ وأمعنتَ النظر – قد يكون بذرةَ حكمةٍ جديدة، أو عضلةً روحيةً نمت، أو زاويةَ رؤيةٍ اتسعت. والمحكُّ الذي يفصلُ بين من يريدون ويمضون، وبين من يتمنون وينامون.
المجرة التي نحملها في صدرنا:
فتخيل، للحظة، حياتك مجرةً شخصيةً، كونًا مصغرًا تدور فيه أفلاكُ وجودك. رسالتك... شمسٌ في قلب هذه المجرة، تشعُّ دفئًا وضوءًا يمنح كلَّ شيءٍ معناه، يُنير دروبك ويدفئ عزمك.
قضيتك... نجومٌ متلألئةٌ، نقاطُ الضوء التي ترسمُ لك طرقَ السفر في بحر الظلام، كلّ نجمةٍ دليلٌ على شغفٍ، على همٍّ يحرّكُ فيك نبضَ الحياة. مبادئك... قوانين الجاذبية الخفية، التي لا تُرى بالعين ولكنّها تمسك بأجرام مجرّتك كي لا تتشتت في الفراغ، تحفظ توازنك، وتحدّد مداراتك بثباتٍ لا يهتزّ.
وأما مسائلك، شُّهبٌ عابرةٌ، خطوطٌ منيرةٌ تلمعُ للحظةٍ ثم تختفي. قد تبهَرُك بضوئها السريع، أو تُخيفك باحتكاكها العنيف مع جوّ حياتك، لكنّها، في النهاية، لا تُغيّر مسارَ شمسك، ولا تُطفئ نجومك، ولا تُخلّ بقوانين جاذبيتك. هي زوّارٌ عابرون في فضاء وجودك.
ففي كلّ فجرٍ جديد، حين تفتح عينيك على هدير العالم، اسأل نفسك هذا السؤالَ الذي يُقرعُ كجرسٍ في صومعة الروح: أيّ نجمٍ أنا في مجرّتي الخاصة؟ هل تدورُ كواكيبي حول شمس رسالتي الواضحة؟ هل تشعّ نجوم قضاياي بإصرارٍ لا يخفت؟ هل تحفظُ قوانين مبادئي توازنَ هذا الكون المصغر؟ أم أنّي أسمحُ لشهب المسائل العابرة أن تُخدعني ببريقها الزائف، فأُنسى الشمسَ والنجومَ والجاذبيةَ التي لا تُرى؟
الإجابة لا تُكتب في كتب الحكمة، ولا تُلقن في قاعات الدرس. مفتاحُها يرقدُ هناك، في أعماق صدرك، حيث تدور مجرّتك الصامتة، وتُنادي أسئلتك الأبدية. ألا تسمع دقّاتها؟
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق