دهشة الحضور في زمن العبور!
كُن هنا تمامًا، كأنك قد التقيت بنفسك لأول مرة، وأنفاسك تتناغم مع نبض العالم من حولك. لا تفكر بما مضى ولا بما سيأتي، كأن الزمن أوقف عدّته كي يمنحك برهة نادرة، وكأن الكون قرر أن يختبر قدرتك على الوجود الخالص.
كانت الألوان تنسكب من النوافذ مثل وعدٍ قديم، والهواء يجرّ معه رائحة المطر الأولى، كأن المدينة كلها تتنفّس ببطء كي لا تكسر سحر اللحظة. وكأن كل شيء وُجد لتراه الآن. ثم انحنى الضوء على الأرض كطفلٍ يبحث عن لعبته الضائعة.
هو الحضور الذي لا يعرف الخوف من الفقد، ولا يستعجل شيئًا، الحضور الذي يفتح النوافذ على اتساعها ليملأ رئتيك برائحة الغيم قبل المطر، وتلك النسمة التي تحمل صوت الأرض وهي تستيقظ تحت المطر، في تلك اللحظة، تشعر أن العالم يبطئ من أجلك. ويترك عينيك تتأملان التفاصيل الصغيرة التي كانت تمرّ كأنها لا تخصك، لتدرك فجأة أنها كانت طوال الوقت جزءًا منك.
في زمنٍ يمضي بنا كما تمضي القطارات دون أن تنتظر أحدًا، هناك لحظةٌ تقف فجأةً، كأنها تقف في منتصف الجسر بين الضفتين، وتدعوكَ للنظر أسفل قدميكَ، لترى المياه التي لم تكن تراها، وهي تحمل ظلّك المتقلّب، وتلمع فيها حبات المطر كأسرارٍ معلّقة بين السماء والماء، فتكتشف أن هذا الظلّ ليس أنت، بل نسخةٌ منك تصنعها اللحظة لتُريكَ ما فاتك.
هي دهشة الحضور في زمن العبور، دهشة اكتشافك لغيابك، كغيمة حُبست رؤيتها خلف زجاج النافذة المُغبر، وأنك تعود الآن لتوقّع على سجل الحياة باسمك الحقيقي، لا بالاسم الذي اعتدت التوقيع به.
بدأت خطوات المارة تتباطأ، وكأن الشارع فقد وعيه للحظة، فيما ارتفعت أصوات بعيدة تشبه هدير البحر في أذن مغلقة. تلك كانت اللحظة التي تغيّر فيها الإيقاع. تحرك الغيم فجأة، وتدحرج الظل فوق الجدران كأنه يجرّ خلفه الحكايات.
وحين تهمس اللحظة بالحياة، لا يكون الهمس صوتًا، بل إحساسًا يتسلل من حافتك إلى جوهرك، كارتجافة أول لمسة، أو كابتسامةٍ لم يمهلها الخجل أن تكتمل. ربما يأتيك هذا الهمس من نسمةٍ حاملة لشيء من طفولتك، أو من ظلّ يتطابق مع ظلك على الرصيف قبل أن تلتفت، أو من عينٍ تلتقيك بعفوية تامة، وكأنها تقول لك: أنا أعرفك من قبل أن تعرف نفسك.
وهنا، تبدأ في الإصغاء لما لا يُقال، حيث اللغة تصمت لتفسح المجال لأصوات أخرى: ارتعاشة الأصابع، بطء الخطوة، أو ذلك الصدى الخافت لخطوة لم تأتِ بعد، أو الطريقة التي يسقط بها ضوء المساء على وجهٍ تعرفه.
فيُكشف لك أن الصمت وعاءٌ ممتلئ، ومساحة تنكشف فيها حقيقة الأشياء، كصفحة ماء صافية تكشف عمق القاع فجأةً، وأن المعنى الأعمق لا يقيم في الكلمات، بل في تلك المسافة الخفية بين نظرتين.
وفي مكان ما من ذاكرتك، هناك اللحظة التي كنّا فيها نحن، بلا أقنعة، بلا حواجز، نضحك من قلبنا حتى يخفت صوت العالم من حولنا. لا تعرف لماذا حفظتها ذاكرتك بتلك الدقة، لماذا تتذكر رائحة القهوة، التي تذوب في ضوء المساء مثل سكرٍ غير ممزوج، ونبرة الضوء في عينيه أو عينيها، وكأنك تخشى أن تتبخر من بين يديك.
ربما لأنها كانت اللحظة التي صدّقت فيها أن وجودك ليس عبورًا عابرًا، بل حجرًا ألقِيَ في بركة الزمن، تموجاته لا تهدأ، وأنك تركت أثرًا في حياة أحدهم كما ترك هو في حياتك، وكأنكما تبادلتما توقيعًا سريًا على صفحة من الزمن لا يملك أحد غيركما قراءتها.
عِشْ كما لو أن الحياة تُشاهدك، وكأنك لستَ وحدك في المسرح، وأن خلف الستارة، ثمة عينٌ ترى كل ما يُنسى، وأن كل خطوة، كل كلمة، كل التقاء عابر، هو مشهد في فيلم أكبر بكثير من وعيك. الحياة ترى التفاصيل التي نظنّها تافهة، وتحتفظ بها في أرشيفها، كحبات عقدٍ تنفرط ثم تُجمَع من جديد، لتعيد عرضها عليك حين تكون في أمسّ الحاجة إليها، وكأنها تقول: كنتَ هنا، ولم تلتفت.
وهكذا، حين نصغي حقًا، نكتشف أن اللحظة لم تكن تمرّ بنا، بل كانت تنتظرنا، تراقبنا بصبر، كشجرة باسقة تظلّل مقعدًا فارغًا حتى يعود الجالس، حتى نكون مستعدين لاستقبالها، لأن بعض اللحظات لا تُعطى إلا لمن يعرف كيف يراها.
وعندها صمت كل شيء، حتى العصافير بدت وكأنها تستمع، بينما يديك معلقتان بين الهواء والحقيقة، والعينان تبحثان عن شكلٍ لم يكتمل بعد. عندها تدرك أنك حاضر بكاملك.
وحين تغادر، لا تتركك فارغًا، بل تمنحك ما يشبه الندبة الجميلة، تلك التي تشبه وشمَ نجمةٍ صغيرةٍ نُقِشَت عندما انكشف الغطاء عن قلبك، تلك العلامة التي لا يراها أحد سواك، لكنها تذكّرك أنك كنت حيًّا حقًا، ولو لدقيقة واحدة كاملة.
قد تذوب الأصوات، وتتلاشى الألوان، وتختفي الملامح، لكن صدى تلك اللحظة يظل يتردّد في داخلك، كجرس صغير يرنّ كلما مررت على قلبك، ويوقظ الحنينَ كطائر نائم في قفص الصدر، لتتذكر أن الحضور ليس حالة عابرة، بل هو دليل على أنك قادر على رؤية نفسك خارج المرايا.
عندها تدرك أن الإصغاء لها كان فعل نجاة، وأنك لو لم تتوقف، لضاعت منك الحياة في ازدحامها، دون أن تنتبه أن أجمل ما فيها كان يمرّ بهدوء، على مسافة نفس واحد، ينتظر منك أن تصغي.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق