القمر الذي يسكن التيه!
لم يكن ضياءً يُستعار، بل مرآةً تُظهر ما تخفيه الظلمة: آثار جراحٍ تلمع كندوبٍ فضية، وحكاياتٍ تائهة بين فجوات الضوء.
حين تصمد الأوتار المرتعشة في وجه عاصفةٍ تجرُّ خلفها ذكرياتٍ مهشّمة، ويعلو صفير الريح من بين شقوق النوافذ كأنها تصرخ بأسماءٍ طواها الغياب، وتنتشر رائحة المطر الممزوجة بغبار النسيان في أرجاء الغرفة، يستجيب القلب لنداء أشباحٍ لم تبرح غرف الذاكرة.
كانت تطلُّ من زوايا الغرفة كصورٍ بالية: طفلةٌ ترفع يديها لالتقاط القمر، وشابٌ يصرخ في ريحٍ لا تحمل صوته… أشباحٌ تعرف أن سكنى الذاكرة نعمةٌ لا تُمنح إلا للغرباء.
هناك، يتلألأ القمر، لا في السماء فقط، بل في عيون الأوراق التي انتظرت الضوء طويلًا، كما لو كان الحبر يتهيأ للنهوض من سباته. ينعكس من ملامحه حنينٌ قديم، ضوءٌ لا يبدد العتمة، بل يمنحها شكلًا يمكن احتماله.
لم يعد المسافر يطمئن لأن الطريق اتضح، بل لأن شيئًا في صمت القمر يشبه صمته، ولأن وعود الضوء، حتى وإن كانت خافتة، أقوى من صمت الظلمة. تذكّر أن أقوى الضوء هو الذي يولد بعد العاصفة، وأن بقايا النور قد تحمل من الشجاعة ما يكفي لعبور المسافات الموحشة.
وقف هناك، يتأمل القمر كما لو كان يقرأ ملامح وجه صديق قديم، وشعر أن القمر يراه أكثر مما هو يراه. لم يكن الأمر طمأنة بقدر ما كان اتفاقًا صامتًا: أن التيه لن يدوم، أو هكذا أراد أن يصدق. لكنه أدرك في ذلك الصمت أن القمر لم يعد موعد خلاص، بل شاهدٌ على هُوية الضياع. كان الاتفاق مجرد هدنة: يعترف فيه بأن النور قد يكون سجّانًا للروح، كما الظلام.
لكن في عمق قلبه، كان يعرف أن القمر الذي يبتسم له الليلة، هو نفسه الذي رآه في كل رحيله وخساراته، وأنه سيبقى هناك حين يعود… إن عاد.
لم يكن القمر يعده بالنهاية، بل كان يذكّره بأن بعض التيه لا نخرج منه أبدًا، وأننا، نتوقف أخيرًا، أو بعد حين عن انتظار الطريق، ونكتفي بالمشي داخله، بصمتٍ يثقل الخطى، وابتسامةٍ واهيةٍ لا تُقنع أحدًا… حتى أنفسنا.
نتعلّم كيف نحمله معنا، كظلٍّ لا يتركنا، حتى حين نبتسم للسماء. نرفعه كعبءٍ مقدسٍ فوق أكتافٍ منهكة، نعثر به في الظلام فنعتبر عثراتنا دروسًا… نمسكه بيدٍ مرتعشة فلا يمسكنا!
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق