السبت، 9 أغسطس 2025

أصواتٌ لا تُخمد.. بل تُحتضن!

 
أصواتٌ لا تُخمد.. بل تُحتضن! 

داخِلَنا، حيث يُضيءُ الفكرُ شموعَ الوجود، تتصاعدُ ألسنةُ حواراتٍ لا تنطفئ. مثل نارٍ مستعِرةٍ في صدرِ الليل، تُلقي بظلالِ قلقٍ وشكٍّ على جدرانِ وعينا. نلهثُ وراءَ دلوِ صمتٍ نَخلِطُ به هذه النيران، نتوهمُ أن الماءَ وحدهُ قادرٌ على إسكاتِها. لكن الماءَ يُطفئُ الجمرَ الظاهر، أمَّا جمرُ الأفكارِ فيُروّضُه الانتباهُ الواعي. فالصمتُ الحقيقيُّ ليس فراغًا تُبتلعُ فيهِ الأصوات، بل هو حُضورٌ لمعنى أعمق، يتنفَّسُ بين الضلوعِ حين نتعلَّمُ فنَّ الإصغاء.


فهم الأصوات: سيمفونية الوجود الداخلي! 

دعونا نُصغِ بلا خوف. هل تسمعونَ ذلك الصوتَ الجاثمَ في الظل؟ إنه الناقدُ الداخليُّ، صوتهُ كصوتِ حصىً خشِنٍ يُدحرَجُ فوقَ زجاجِ الثقة. يهمسُ، لا، يزمجرُ أحيانًا: لستَ كافيًا.. ستُخفقُ.. انظرْ كيف يتفوقُ عليك الآخرون! كلماتهُ تُثقِلُ الكتفينِ كعباءةٍ رطبةٍ من شتاءٍ طويل. إنه ليس شريرًا، بل حارسٌ قلقٌ تَشوَّهتْ بوصلةُ قلبه، يحاولُ – بجهلٍ – حمايتنا بالفشلِ المتوقَّع.

وبين الحين والآخر، يعلو صوتٌ آخر، كالمُدرِّبِ الحاني، دافئٌ كشمسِ الصباحِ الأولى على القلبِ المتعب. يهمسُ: تذكَّرْ.. لقد تجاوزْتَ أصعبَ من هذا.. فيك كنوزٌ لم تكتشفها بعدُ. كلماتهُ مثل دفقةِ ماءٍ عذبٍ في ظمأ، تُذكِّرنا بنقاطِ قوتنا المنسية، تُشعلُ في الأعماقِ شمعةً صغيرةً لكنها عنيدة.

ثم هناك الصوتُ الذي يُحلِّقُ نحو الأفقِ البعيد، صانعُ الخططِ ومستشرفُ الغد. تراهُ ينسجُ خيوطَ مستقبلٍ برّاقٍ، لكن خيوطَهُ قد تتشابكُ فجأةً، وتتحوَّلُ إلى شبكةِ قلقٍ خانقةٍ تُقيِّدُ الحاضر. "ماذا لو..؟" سؤالُهُ المتكررُ يَثقبُ السكينةَ مثل مطرقةٍ على رأسِ مسمارٍ في غرفةٍ هادئة. إنه يحلمُ لنا، لكن أحلامهُ أحيانًا تُنسينا أن نعيشَ اللحظةَ التي بين أيدينا.

وأخيرًا، يأتي الصوتُ كالمُراجِعِ الوفي أو الغليظِ أحيانًا، يعيدُ فتحَ دفاترِ الماضي. يقلِّبُ صفحاتِ الذكرياتِ تارةً بحنوٍّ، وتارةً بقسوةٍ. رائحةُ زهرةٍ قديمة، أو صوتُ لحنٍ قديم، قد توقظُهُ فجأةً فيُعيدُ عرضَ مشهدٍ سعيدٍ يذوبُ القلبُ حنينًا، أو جرحًا نازفًا نتمنى لو بقيَ مدفونًا. إنه يحفظُ قصتنا، لكن تمسُّكَهُ ببعضِ الصفحاتِ قد يمنعنا من كتابةِ الفصلِ الحالي.


اليقظة: فنُّ استقبال الأفكار دون تملك! 

هنا، في خضمِّ هذه السيمفونيةِ أحيانًا، والضجيجِ أحيانًا أخرى، يأتي دورُ الانتباهِ الواعي. ليس سيفًا لنَهرِ الأفكارِ عنَّا، ولا سدًّا لمنعِ تدفقها. إنه أشبهُ بجلوسنا على ضفةِ نهرٍ هادئ، نراقبُ المياهَ وهي تمرُّ – أوراقٌ يابسةٌ، أغصانٌ مكسورةٌ، زهورٌ متفتحةٌ، قواربُ صغيرةٌ – دون أن نُقحمَ أنفسَنا في التيار. 

نرى الفكرةَ قادمةً: "أنا فاشل". نلاحظُ حضورَها – مجردَ سحابةٍ عابرةٍ في سماءِ وعينا – دون أن نُطلقَ عليها حكمًا "جيدة" أو "سيئة". نُدركُ حضورَ الناقدِ الجاثم، نعرفُ صوتَه، لكنَّنا لا نُصبحُ هو. هذه هي القفزةُ النوعية: أن نفصلَ ذاتَنا عنْ أفكارِنا. 

نحن لسنا السحابةَ العابرةَ، نحن السماءُ الواسعةُ الثابتةُ التي تستقبلُها جميعًا. الفكرةُ مجردُ زائرٍ مؤقتٍ يطرقُ الباب، أما نحن فـ "المضيفُ الدائمُ" الذي يختارُ كيف يستقبلُ، وكمْ يدعو الزائرَ للبقاء. تمرينٌ بسيطٌ: في خِضَمِّ الصخب، نأخذُ نفسًا عميقًا، نُسمِّيهِ (نحن نعرفُ اسمه الآن)، ونقولُ في هدوء: أهلًا بكَ.. أرى أنكَ هنا اليوم. هذه الملاحظةُ البسيطةُ، غيرُ المحكمةِ، هي البدايةُ لفقدانِ الفكرةِ سلطانَها القديم.


الصمت: موطنُ المعنى والبوصلة! 

وعندما نُتقنُ فنَّ الاستقبالِ هذا، دون صراعٍ أو خوف، يبدأُ الصمتُ الحقيقيُّ بالظهور. ليس صمتًا ميتًا خاليًا من الأصوات، بل هو صمتٌ حيٌّ، نابضٌ، كالفراغِ الموسيقيِّ بين النوتاتِ الذي يُعطي المعزوفةَ روحَها. 

في هذا الحيزِ المقدسِ بين الأمواجِ الفكرية، حيث تخفتُ أصواتُ الناقدِ والمستشرفِ والمراجعِ، يبرزُ صوتٌ آخرُ. هادئٌ، عميقٌ، ثابتٌ كنبضِ الأرض. هذا هو صوتُ البوصلةِ الداخلية، صوتُ الحدسِ والحكمةِ المتأصلة. في زحامِ الضوضاءِ كانَ غائبًا، أمّا في رحابةِ الصمتِ الواعي، يصبحُ واضحًا، يُرشدُنا إلى قراراتٍ تنبعُ من أعماقِ كينونتنا، لا من ردودِ أفعالِ الخوفِ أو الطموحِ الأعمى.

هنا، في هذا الصمتِ النشطِ، نجدُ الهدوءَ والسكينةَ. لا هدوءَ هروبٍ من العالمِ الخارجيِّ الصاخبِ، بل سلامٌ داخليٌّ لا يتزعزعُ بزعازعِ الظروف. كأنَّنا في عينِ إعصارٍ، كلُّ شيءٍ حولنا يثور، ونحن في مركزهِ هادئون. 

نَصِلُ، أخيرًا، إلى ذاتِنا الحقيقية، بعيدًا عن الأقنعةِ والأدوارِ التي نرتديها في مسرحِ الحياة. نرى أنفسنا في مرآةِ الصمتِ هذه كما نحن: كائناتٌ تحملُ تناقضاتٍ وجمالًا، قوةً وهشاشةً، أفراحًا وأتراحًا، دون حاجةٍ للتبريرِ أو الاختباء. الصمتُ هنا هو المساحةُ التي نُولدُ فيها لأنفسنا من جديد... كلَّ يوم.

وكأن هذه الأصواتَ، على اختلافِ نبراتِها، تبلغُ ذروتَها فجأةً في قاعةٍ واسعةٍ من الضوءِ والظلِّ، تتقاطعُ فيها النغماتُ كأمواجٍ متلاحقةٍ قبل أن تنكسرَ على شاطئِ الصمتِ. لحظةٌ مكثفةٌ، يتسعُ فيها الصدرُ لكلِّ التناقضاتِ دفعةً واحدةً؛ الفرحِ والحزنِ، الرجاءِ والخوفِ، الشكِّ واليقينِ... ثم، كما لو أن يدًا خفيةً أزاحتِ الستارَ، ينكشفُ المشهدُ الأخيرُ بهدوءٍ مهيبٍ، حيث يسكنُ كلُّ صوتٍ مكانَهُ، وتستعدُّ السيمفونيةُ لأن تُختتمَ بنبضةٍ من سلامٍ صافٍ.


المضيف لا السجين!

إذًا، دعونا نكفَّ عنْ مطاردةِ سرابِ إخمادِ الحواراتِ الداخليةِ إلى الأبد. إنها ليست نيرانًا تُطفأ، بل نغماتٌ في سيمفونيةِ الوجودِ الإنسانيِّ المعقَّد. المفتاحُ ليس في إسكاتِها، بل في تحويلِ علاقتِنا معها. من أن نكون أسرى خائفينَ في زنزانةِ أفكارِنا، ننتظرُ إعدامَ صوتٍ أو إطلاقَ سراحِ آخر، إلى أن نكون مضيفينَ واعينَ، نُصغي بفضولٍ ولطفٍ لكلِّ زائرٍ، نعرفُ أن حضورَهُ مؤقتٌ، وسلطانَهُ مشروطٌ بانتباهنا. نتعلمُ فنَّ قيادة السيمفونيةِ بدلَ أن نكون آلاتٍ تعزفُ بلا وعي.

عندما نُصغي، لا لنخضعَ بل لنفهمَ.. عندما نلاحظُ دون أن نحكمَ.. عندما نمنحُ الصمتَ مساحةً ليكشفَ عنْ كنوزِه... نكتشفُ أن الحربَ على الذاتِ كانت أكبرَ وهمٍ، وأن رحلةَ الاستكشافِ الهادئِ، بكلِّ ما تحويهِ من أصواتٍ متنافرةٍ أحيانًا، هي طريقُنا إلى السلامِ الأصيلِ، وإلى ذواتِنا التي تنتظرُ في عمقِ الصمتِ أن نعثرَ عليها، أخيرًا، لنُصغي إليها.. فقط. ولتستمرَّ السيمفونية، بألحانِها الشجيةِ وصخبِها المُربك، ونحن نرقصُ على إيقاعِ وعيٍ جديدٍ، مضيفونَ في دارِ أنفسنا، لا سجناءٌ في دهاليزِ أفكارِنا.


جهاد غريب 
أغسطس 2025
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...