الكتابة: كائنُ الحبرِ والروح!
ليستِ الكتابةُ حروفًا تُنسجُ في الفراغ، ولا جُملًا تتراصُّ كالحجارةِ على قبرِ المعنى. إنها كائنٌ حيٌّ ينبضُ بالحبرِ والروح، يولدُ من رحمِ الصمتِ، ويمشي على قدميِ الفكرةِ، ويتنفّسُ بأنفاسِ القارئ. كلُّ فاصلةٍ فيه نبضةٌ، وكلُّ نقطةٍ فيه نهايةُ عالمٍ أو بدايتُه.
كيفَ لنا أن نُمسكُ بيدِ اللغةِ دونَ أن نُلامسَ أعماقَها؟ كيفَ نكتبُ بالكلماتِ وننسى أن لكلِّ كلمةٍ ظلًّا، ولهجةً، وذاكرةً؟ الكتابةُ ليستْ خطًّا أسودَ على بياضٍ، بل هي رقصةُ الضوءِ والظلِّ بينَ الفكرةِ والقلبِ. لهذا، لا يكفي أن تكونَ الكلماتُ صحيحةً، بل يجبُ أن تكونَ صادقة، نابضة، تنتمي لمن يكتبها وتعني شيئًا لمن يقرؤها.
الفاصلةُ.. العالمُ الصغيرُ الذي يُغيّرُ الكونَ:
في أحدِ الأيامِ، سقطتْ فاصلةٌ من جملةٍ فتحوّلتْ جريمةٌ إلى اعترافٍ، أو لعبةٌ إلى حربٍ. الفاصلةُ ليستْ شكلًا عابرًا، بل هي قبضةُ الهواءِ بينَ أنفاسِ الكلامِ. هي الوقفةُ التي تُعيدُ للعبارةِ أنفاسَها، أو تختنقُ بها.
ولذلك، على الكاتب أن يتأمل علامات الترقيم لا كزينة لغوية، بل كأدواتٍ تضبط الإيقاع والمعنى. كم من معنىً دُفنَ تحتَ فاصلةٍ زائدةٍ، وكم من حقيقةٍ وُلدتْ لأنّ كاتبًا أراحَ كلماتهِ عندَ النقطةِ المناسبةِ.
الكتابةُ تهذيبٌ للّفظِ والوجدانِ:
لا ينهضُ النصُّ إلا إذا انتهضَ ضميرُ كاتبِه. فاللغةُ مرآةُ الروحِ، وأيُّ خدشٍ فيها يُظهرُ تصدّعًا في الفكرةِ قبلَ الورقةِ.
التهذيبُ ليسَ ترفًا، بل هو احترامٌ للقارئِ الذي يمنحُك عينيهِ ووقتَه. وهو يظهر في اختيار المفردات بعناية، وفي توخي الصدق، وفي مراعاة أثر كل جملة.
إنّه الهمسُ الذي يقولُ: هذهِ الكلماتُ وُلدتْ من أجلكَ، فلا أستحقُّ أن أُقدّمَها إليكَ إلا بأحسنِ حُلّتِها.
اللغةُ.. ذلكَ البحرُ الذي لا ساحلَ له:
في كلِّ مرةٍ أمسكُ فيها القلمَ، أتذكّرُ أنني أنزلقُ في متاهةٍ من المعاني التي لا تُمسَكُ باليد. الكلماتُ أمواجٌ، بعضُها يَحملُني إلى الشاطئِ، وبعضُها يجرّني إلى الأعماقِ.
وهناك، في العتمةِ التامّة، حيث لا صوتَ إلا الحروف تتنادى، أسمعها تقول: كُنْ كما كتَبناك.. فلا تخذلْ نَصَّكَ فيك.
في ذلك العمق، يتلاشى التظاهر، ويُختبر صدق الكتابة، وتنكشف نوايا الكاتب بين سطرٍ وسطر.
الكاتبُ.. ذلكَ الخياطُ الذي يحيكُ الزمنَ:
الكاتبُ الحقيقيُّ ليسَ من يملأ الصفحاتِ، بل من يملأ الفراغاتِ بينَ السطورِ. هو الذي يخيطُ الزمنَ بخيطٍ من نورٍ، ويجعلُ من الفاصلةِ جسرًا، ومن النقطةِ نافذةً.
هو من يعرف أن مسؤولية الكلمة لا تقلّ عن مسؤولية الفعل، وأنّ كل نصّ يخرجُ إلى العلن، إما أن يضيء طريقًا أو يترك عتمةً إضافية في القلب.
فإذا لم تكنْ كتابتُكَ جديرةً بأن تُزرعَ في عقولِ الناس كشجرةٍ ظليلةٍ، تمنحهم المعنى والمأوى، فربما كان الصمتُ أجملَ.
لا تكتبْ إلا إذا كانَ قلبُكَ يصرخُ بما لا يستطيعُ لسانُكَ نطقَهُ.. وإلا فما الفرقُ بين حبرِ الكلماتِ وخواءٍ لا يتذكّره أحد؟
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق