الجمعة، 8 أغسطس 2025

الإيمان: النور الذي يرفض الأفول… والبوصلة التي لا تضلّ!

 
الإيمان: النور الذي يرفض الأفول… والبوصلة التي لا تضلّ! 

في زمنٍ تتكسَّر فيه القيم على صخور السخرية، وتتحوَّل المبادئ إلى كلماتٍ جوفاء تتقاذفها ألسنة المتندّرين، يبقى الإيمان حاضرًا كشجرة عملاقة تمتد جذورها في أعماق الروح، لا كزينة لفظية أو عاطفة عابرة. إنه ذلك الجذر الخفي الذي يمدُّ الروح بالعصارة حين تجفُّ ينابيع الأمل، وذلك الحبل السري الذي يربط القلب بمصدر قوته، فلا يتركه يضيع في متاهات اليأس. 

اليوم، يبدو المؤمن بقيمة أو فكرة أو حتى بنفسه كبحَّارٍ وحيدٍ يقف على سطح سفينته، يرفع مصباحه في عين التيار الجارف، فيما الأمواج المتلاطمة من الشكوك تحاول إغراقه. النظرات من حوله ترمقه بدهشةٍ واستهجان، وكأن تمسُّكه بما يراه حقًّا ضربٌ من الجنون. لكن التاريخ لا يذكر الذين سخروا، بل يذكر أولئك الذين آمنوا بما لم يره غيرهم، فصار حلمهم البعيد واقعًا نعيشه. الأنبياء والمصلحون والعلماء العظام… جميعهم نظروا بعين القلب فرأوا ما عجزت عنه عيون الجسد، وصمدوا حتى انكسرت أمامهم جدران المستحيل. 

الإيمان هو تلك اللغة السرية التي لا تحتاج إلى ترجمة، يتحدث بها القلب، وتتواصل بها الروح مع الكون في لحظات الصفاء والضيق. هو ذلك الخيط النوراني الممتد بينك وبين حكمةٍ إلهيةٍ لا تتخلى عنك، حتى عندما تظن أنك وحيدٌ في المعركة. إنه الإحساس الذي يخبرك بأن وراء كل غيمةٍ شمسًا، ووراء كل جرحٍ حكمة، ووراء كل ليلٍ فجرًا. 

هو ذلك الصوت الذي يهمس في أذنك عند منتصف الليل: اصبر، فما زال الخيرُ قادمًا، ثم يتحول إلى هديرٍ حين تقف في وجه التيار وتقول: لن أتنازل عن قيمي، لأنها ليست مجرد شعارات، بل هي جوهر وجودي. 

ولكن الإيمان الحقيقي ليس مجرد حصنٍ منيعٍ ضد الشكوك، بل هو أيضًا ورشة عمل دائمة. فهو الذي يجعل العالم يصرُّ على اكتشاف دواء جديد بعد مئة تجربة فاشلة، والمصلح الاجتماعي يواصل دعوته رغم بطء التغيير، والفنان يرسم على لوحته ما يراه في روحه قبل أن تراه عيون الناس. إنه رؤيةٌ تمتد إلى ما وراء الحاضر، وإصرارٌ على أن الغد يمكن أن يكون أفضل، حتى عندما لا يوجد دليلٌ ملموس على ذلك. 

لكنَّ الإيمان – كأي قوة عظيمة – يحتاج إلى ضابطٍ من العقل والنقد الذاتي. فالنار التي تدفئك قد تحرقك إن أسيء استخدامها، والقوة التي تمنحك الصمود قد تتحول إلى عنادٍ أعمى إذا رفضت المراجعة. لذلك، فإن المؤمن الواعي ليس من يهرب من الأسئلة الصعبة، بل من يواجهها بشجاعة، مستعدًّا لأن يغيّر مساره إذا اقتضت الحكمة ذلك، دون أن يخسر جوهر إيمانه. 

على مستوى الأمم، يكون الإيمان المشترك هو المادة الخام التي تُبنى بها الحضارات. فهو الذي وحَّد الشعوب تحت راية العدل، وأشعل ثورات التحرير، وحوَّل الهزائم إلى انتصارات. لكنه قد يصبح أداة دمار إذا تحوَّل إلى تعصُّبٍ يرفض الآخر، أو جمودٍ يرفض التطور. 

الفرق بين الإيمان الحي والإيمان الميت هو أن الأول ينمو كالشجرة، بأساسٍ راسخٍ وفروع متجددة، بينما الثاني يشبه الحجر، صلبًا لكنه غير قادر على الحياة. 

وإذا سألك أحدهم: كيف تستمر في الإيمان وسط هذا الخراب؟، فاجبه بأن الإيمان ليس مجرد مظلة تحتمي تحتها حين تمطر، بل هو الجذع الذي تتشبث به حين تهزك الرياح العاتية. هو أن تزرع بذرةً وتظل تسقيها كل يوم، حتى لو لم ترَ لها أثرًا، لأنك تعلم أن تحت التراب هناك معجزةٌ تنمو. هو أن تبني سفينةً في صحراء، لأن صوتًا داخليًّا يخبرك أن الطوفان قادم. 

في النهاية، الإيمان ليس مجرد فكرة نخزنها في عقولنا، بل هو فعلٌ مستمر، وخيار نؤكده كل صباح. هو نقطة البداية لكل تغيير، والخيط الأخير الذي نتشبث به عندما تتساقط كل الخيوط. وما بين أصله الراسخ في الروح، وجسارته التي تدفعنا لبناء المستحيل، يظل الإيمان أعظم ما يحمله الإنسان، لأنه الجسر الوحيد بين الحلم والواقع. 

فليضحك من يشاء، وليشكك من يريد. فالشمس لا تحتاج إلى شهادة أحدٍ كي تشرق، والنور لا يستأذن أحدًا كي يضيء. وكذلك الإيمان… هو النور الذي يرفض الانطفاء، والبوصلة التي لا تخون، مهما اشتد هيجان الأمواج. 

"فَٱصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا، إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ" — سورة المعارج: الآية 5


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...