الأربعاء، 13 أغسطس 2025

وداعٌ بمذاقِ القُبْلَة!

 
وداعٌ بمذاقِ القُبْلَة! 


"نافذةٌ تَطُلُّ على حديقةٍ داخلَ قبرٍ، لكنها تَزْرَعُ بذورًا مِنَ النورِ لا تُنسى" 


في لحظةٍ يلوحُ فيها الخلاصُ كضوءٍ شاحبٍ يُخْتَرِقُ ستارةَ الغيابِ، كأنهُ يدٌ تَتَلَمَّسُ الحقيقةَ خلفَ حجابٍ من ضباب. ضوءٌ يُشبهُ انتظارَ الممثلِ خلفَ الكواليس قبلَ خطواتهِ الأولى نحو الخشبةِ المُعتمة. تُنازِعُ الأنفاسُ ظلمةَ الفُراقِ، وتتسابقُ اللحظاتُ لتشهدَ النَّفَسَ الأخيرَ مِنَ الحضورِ. 

تَتَجَمْهَرُ الهمساتُ عندَ حافةِ الوداعِ كجوقةٍ مِنَ الترانيمِ البعيدةِ، تَدوسُ على أشواكِ الصَّمْتِ، وتهمسُ للألمِ بصوتٍ يُشبهُ انكسارَ الزجاجِ: قد آنَ لكَ أنْ تستريح. كلُّ همسةٍ تحملُ سؤالًا قديمًا: هل كانَ الألمُ حجرًا رَصَدْنَاهُ في مزهريةِ الذكرى، أم بذرةً لم نعرفْ كيف نَنْسُجُ لها قميصَ النور؟ 

تَتَبَدَّدُ الصورةُ شيئًا فشيئًا، كغبارِ فانوسٍ انطفأ بعدَ رحلةٍ طويلةٍ، لكنَّ ما يتبقَّى ليسَ خواءً. هنا، حيثُ كانَ الألمُ يَقطُرُ كالرصاصِ المُذابِ في جوفِ الليل، يَنْبَثِقُ جدولٌ صافٍ يَسِيلُ بثمرٍ ناضجٍ. الثمرُ يَحملُ في لُبِّهِ ذاكرةَ العطشِ: طعمٌ يَجْمَعُ بينَ حلاوةِ العطاءِ ومُرورةِ انتظارٍ طويلٍ. تحملهُ أغصانٌ لَوَّاحَةٌ بخُضرتها، كأنها تُلَوِّحُ بكفٍّ مَطْلِيٍّ بالشفقِ للسماءِ، فتردُّ السماءُ برشاشٍ من أجنحةِ الحمام. 

تتذكرُ الأغصانُ أيامًا كانت فيها يابسةً تصرخُ بالعطشِ، فاليومَ تَنْثَني بوقارٍ وهي تمسحُ دمعةَ الأمسِ بثمرتها. لو أنَّ للقصورِ أُذُنًا لسمعتِ ارتطامَ حباتِ الرَّمادِ - التي خلَّفها الاحتراقُ - بمياهِ ذلك الجدولِ، فتُحدثُ رقصةً مُقدسةً: كلُّ حبةٍ تتحوَّلُ إلى بذرةٍ تَنْسَلُّ من بينِ أصابعِ الزمنِ، كأنها تُراقبُ معجزةَ ولادةِ نجمٍ من كائنٍ انتهى. 

الألمُ الذي كانَ يَمْزُجُ المساءَ بالحناءِ، ويجعلُ من القلوبِ قبورًا منبوذةً، صارَ الآنَ ظلاً مرتدِيًا ثوبَ المعنى. المعنى؟ نسيجٌ غريبٌ تَتَشَابَكُ فيهِ الخيوطُ: خيطُ الصبرِ، خيطُ الجرحِ، خيطُ التساؤلِ عن سرِّ البداياتِ في قلبِ النهايات. 

لم يكنْ رحيلُهُ هو البدايةَ، بل ارتدادُ صدى صوتٍ أخيرٍ لزمنٍ انكسرتْ مرآتُهُ على صخرةِ التجلِّي. جيوبُ القلبِ تزدحمُ بالقُنُوعِ، لا لأنَّ الألمَ رحلَ فحسبُ، بل لأنَّ المعنى أتى مُحتفيًا بأنوارهِ الباردةِ، كمهندسٍ يَبْني قبةً من السماءِ بحجرٍ واحدٍ انزاحَ من جدارِ العذابِ. الحجرُ الذي كانَ عبئًا صارَ رُكنةً تحملُ عفريتَ السماء! 

الآنَ، بعدَ أنْ صارَ الغيابُ رائحةَ تُفاحٍ في الهواء، رائحةٌ تَتَسَلَّلُ كطفلٍ يَلْعَبُ غُمَّاضَةَ العصورِ، تُذَكِّرُك بحلوى أمٍّ في صباحاتِ الطفولةِ، والقُنُوعُ سجادةً من شعرِ النور، تُدركُ أنَّ النهايةَ لم تكنْ فَقْدًا، بل امتلاءٌ يَتَسَرْبَلُ بالفقدِ كالعنكبوتِ يَحِيكُ من صمتهِ بيوتًا للنجوم. بيوتٌ من خيوطٍ ذهبيةٍ، تَعْلَقُ فيها النجومُ كأحلامِ الأطفالِ قبلَ أن تستقرَّ في سماءِ الواقع. 

كلُّ ما تركهُ الوداعُ وراءَهُ ليسَ فراغًا، بل بوّابةٌ تَتَزَحْلَقُ على مياهِها أرديةُ الظلالِ، ويدخلُ منها الضوءُ كطفلٍ يُحاورُ الحجارةَ: ألا تشتاقين أن تكوني زهرة؟ فتجيبُ الحَجَرَةُ بسكوتٍ يمسحُ بهِ الطفلُ دمعتها الصامتةَ، ويَعْقِدُ صُلحًا بينهما. 

ومعَ كلِّ هذا النورِ… يبقى في القلبِ مقعدٌ شاغرٌ لا يجلسُ عليهِ أحدٌ، فبعضُ الوداعِ، حتى وهو يمتلئُ بالمعنى، يظلُّ يتركُ في القلبِ فراغًا لا يَسْكُنُهُ إلا الصدى.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...