الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

دم الحبر… ووهم السكينة!

 
دم الحبر… ووهم السكينة! 

الحبر، ذلك الغارق في كفِّ راحةٍ ضاعت منذ زمن، لا يكتب بحثًا عن الهدوء فحسب، بل يتوسله كما يتوسل التائه قطرة ماءٍ في صحراء قلبه. كأنه يزحف بين جفاف اللحظات، يبحث عن ظلّ كلمة، أو عن همسة معنى تخفف وطأة الصمت. لا يرى خيوط السكينة بعيدة، بل يتخيلها تشرق كل صباح، من شمسٍ لا تحترق، بل تهمس له بالدفء الذي افتقده؛ شمسٌ تعيد إليه الإحساس بأن الحلم يمكن أن يُزرع حتى في التربة التي جفّت، وأن الضوء أحيانًا لا يأتي من السماء بل من الورق.

يتزود من ضوئها بوهمٍ جميل، كمن يشعل فانوسه بفتيل الذاكرة، ويملأ زجاجه بقطرات حلم متأخر، ويقنع نفسه أن السكون لا يزال ممكنًا، حتى لو كان تظاهرًا؛ ذلك التظاهر الذي لا يُعاب، لأنه وحده يمنح القلب مهلةً ليلتقط أنفاسه. ففي كل نقطة حبر، رعشة شوق إلى الرضا، وفي كل سطر، أمنية تلبس قناع القبول، كراقصٍ يتقن خطواته أمام مرآة لا جمهور لها.

الحبر هنا لا يكتفي بأن يكون شاهدًا على ما يُكتب، بل يتحوّل إلى وسيط بين الممكن والمستحيل، بين الصدق والوهم. ينساب على الورق كما تنساب الذكريات في الممرات الضيقة للعقل، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى حتى لو غسله المطر. رائحة الحبر، خشونة الورق، ثقل القلم في اليد؛ كلها تشارك في صنع لحظة لا تعرف إن كانت واقعًا أو حلمًا، جرعة هدوء تسكب على جرحٍ ملتهب.

وفي النهاية، يكتشف الكاتب أن الحبر لم يكن يومًا مجرد أداة، بل كان دمًا أزرق يسيل من جرحٍ لا يلتئم. كل سطرٍ كتبه لم يكن إلا جدارًا يبنيه حول قلبه، وكل نقطة حبر كانت نبضة ضائعة تبحث عن جسدها. وحتى لو كان ما يخطه وهمًا، فهو وهمٌ رحيم، لكنه أيضًا خيانة صامتة؛ لأن الحبر كان يَعِده بالسكينة، بينما يسرق منه القدرة على الصمت. يتأمل يده الملطخة، ويشعر أن اللون الأزرق لم يعد لون الحروف، بل صار لون قلبه الذي غرق في الكتابة حتى نسي كيف يصمت.

ومع ذلك، يقبل بهذا الحبر كما يُقبل بالمنفى حين يغدو الوطن مستحيلًا، ويظل ممسكًا بالقلم كما يمسك الغريق بخشبة مكسورة، وهو يعلم أن الخشبة لن تنقذه، لكنها الشيء الوحيد الذي يمنعه من الغرق أسرع، ويترك للنزيف الأزرق أن يتدفق، لأنه أدرك أن البحث عن السكون، حتى لو كان في سراب الكلمات، هو آخر ما تبقى له من يقين.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...