الأربعاء، 6 أغسطس 2025

مراسي الذكرى: لماذا لا ترحل بعض القصص أبدًا؟

 
مراسي الذكرى: لماذا لا ترحل بعض القصص أبدًا؟

"دعوة للتأمل في دهاليز الذاكرة وأسرار وجودنا الخفية؛ لالتقاط وهج تلك اللحظات العالقة التي تشكلنا" 


الصحوة الحسيّة: 
في غفلة من الحواس، تسلّلَ الماضي... لا شيء ملموس، سوى هذا الفنجان. نحنُ، في هذا الصباح الباكر، نرفعُ الفنجان إلى شفاهنا. رائحةُ القهوةِ تفوحُ كخيطٍ خفيٍّ يربطُ الحاضرَ بغيمةٍ من الماضي. دفعةٌ واحدةٌ... وها هي ذكرياتٌ تطفو على سطح الوعي، كأوراقِ شجرٍ جافّةٍ حملها نهرٌ خفيّ.

لماذا تعلقُ بعض القصص التافهة - ظاهريًا - في أذهاننا، كالوشمِ على الجلد، بينما تتبخرُ أحداثٌ جلّى، كأنها بخارٌ على زجاج؟ أليست الذاكرةُ بحرًا هائلاً، لا نعرفُ أعماقه، يرمي إلينا أحيانًا بقناديلَ مضيئةٍ من الماضي دون أن ندري لماذا؟


مراسي الحواس - حين تصبح الرائحة بوّابةً: 
نحنُ لم ننسَ. نحنُ فقط انتظرنا المفتاحَ المناسب.  
ذلك المفتاحُ قد يكونُ رائحةً عابرةً: عطرُ ياسمينٍ في شارعٍ مزدحمٍ يعيدنا فجأةً إلى حديقةِ جدّتنا المنسيّة. أو نغمةٌ موسيقيّةٌ قديمةٌ توقظُ فينا حرارةَ أولِ لقاء. أو ملمسُ قماشٍ خشنٍ يلامسُ جلدَ أيدينا فيذكرنا بمعطفِ الشتاءِ الذي ارتديناهُ ونحنُ صغار. هذه هي "المراسي" الحسيّة. 

مراسي، كلمةٌ بسيطةٌ تحملُ قوّةً سحريّةً. إنها روابطُ عصبيّةٌ متشابكةٌ، نُحكمُ نسجَها دون وعيٍ منّا. كلُّ تجربةٍ حسيّةٍ ترتبطُ بلحظةٍ عاطفيّة، كالبرقِ بالرعد، أو كعطرٍ قديمٍ علق بثوبٍ لم نعد نرتديه. فيصبحُ الصوتُ، أو الرائحة، أو الطعمُ، ممرًّا سريًّا إلى زمنٍ مضى.

نرتشفُ القهوةَ اليوم، ونذوقُ مرارتَها، فتنفتحُ فجأةً ذاكرةٌ عن صديقٍ قديمٍ كنّا نتشاركُ ذاتَ الفنجان في مقهى شعبيٍّ تحت المطر. الرائحةُ هي الجسرُ الخشبيّ المهتزّ الذي نعبرُ عليهِ نحوَ جزيرةِ الماضي. الطعمُ هو القاربُ الذي يُبحِرُ بنا عكسَ تيّارِ الزمن. لماذا هذا بالذات؟ لأنّ العاطفةَ هي النارُ التي تحرقُ التفاصيلَ في صخرِ الذاكرة، فتتحولُ إلى أحفورةٍ لا تُنسى. 

ثمَّ يأتي الغيابُ ليكملَ العمليةَ. استمراريّةُ العلاقاتِ قد تُبهِتُ ألوانَ التفاصيلِ الصغيرة. بينما الغيابُ المفاجئ، أو البُعدُ الطويل، يمنحُ الذاكرةَ هالةً من القداسةِ والندرة. يصبحُ الصديقُ المفقودُ، أو الحبيبُ البعيد، حاضرًا في كلِّ شاردةٍ وواردةٍ مرتبطةٍ به. غيابُ الجسدِ يعزّزُ حضورَ الصورةِ في متاهاتِ العقلِ الباطن. كأنّ الفراغَ الذي تركه يتحوّلُ إلى قالبٍ صبّت فيهِ الذاكرةُ كلَّ ما لديها من حنينٍ مُركّز.


البحّار الخفي - رقصة العقل الباطن: 
حين يشتدُّ صمت الغياب، يظهرُ العقلُ الباطنُ كملاحٍ يوجه السفينة بلا بوصلة، نحنُ لم نستدعِ تلك الذاكرةَ عن عمد. لقد ظهرتْ فجأةً، كشخصٍ يطلُّ من نافذةٍ مظلمةٍ في منتصفِ الليل. من أرسلها؟ إنه البحّارُ الخفيُّ: العقلُ الباطن.  

هذا الكيانُ الغامضُ يعملُ في صمتٍ، تحتَ سطحِ تفكيرِنا الواعي. إنه يخزّنُ كلَّ شيءٍ: نبراتِ الصوتِ التي سمعناها، ظلالَ الألوانِ التي رأيناها، وخزاتِ البردِ أو الدفءِ التي شعرنا بها. ثمَّ ينسجُ منها خريطةً هائلةً، معقّدةً، لا تخضعُ لمنطقِنا المألوف. 

الروابطُ العصبيّةُ - تلك الجسورُ الميكروسكوبيّةُ في دماغنا - تتشكلُ وتتقوّى مع كلِّ تجربةٍ. تصبحُ طرقًا سريعةً للذكرياتِ. بعضها يصيرُ طريقًا رئيسيًّا، تُضاءُ مصابيحُه تلقائيًّا كلّما مررتْ بهِ شاحنةُ الحواسِ. 

نحنُ لا نتحكمُ في هذا كله. نحنُ ننصتُ فقط للحوارِ الداخليّ الذي يثورُ عندَ ظهورِ الذاكرة: لماذا تذكرتُ هذا الآن؟. هذه اللحظةُ نفسها هي إشراقةٌ صغيرةٌ من الوعيِ على مسرحِ العقلِ الباطن. إنها اكتشافُنا لـ"الرابطِ السريّ" الذي ضغطَ عليهِ البحّارُ الخفيُّ دون أن نراه. الذاكرةُ ليستُ أرشيفًا جامدًا؛ إنها كائنٌ حيٌّ يسبحُ في بحرِ اللاوعي، يطفو على السطحِ عندما يجدُ ما يمسكُ بهِ من خطّافاتِ الحاضر.


المرآة المكسورة - لماذا نهتزّ لقصصٍ ليست لنا؟ 
نحنُ نقرأُ قصةً في كتاب، أو نسمعُ حكايةً من غريب، فتهتزّ أعماقنا كأنّها عنّا. لماذا؟ لأنّ القصصَ الإنسانيّةَ مرايا. حتى تلك التي لا تشبهنا.  

إنها تلمسُ "شيئًا" بداخلنا. ذلك "الشيء" هو الجوهرُ المشتركُ للتجربةِ الإنسانيّة: الخوف، الحب، الفقدان، الفرح، الحنين، القلق. القصةُ الغريبةُ تصبحُ مرآةً مكسورةً، كلُّ قطعةٍ منها تعكسُ جزءًا منّا، ومن مخاوفنا المدفونة، أو أمنياتنا المسكوتِ عنها. نحنُ لا نتأثرُ بالحكايةِ فقط؛ بل بما أثارته فينا من صدىً لأسئلتنا الوجوديّةِ الخاصّة.  

وهنا يطفو السؤالُ الأثقلُ: مَنْ نكونُ دون ذاكرتنا؟  
هل نحنُ إلا مجموعُ ما علقَ في شباكِ وعينا من لحظات؟ الذاكرةُ ليستُ تسجيلاً محايدًا. إنها انتقائيّةٌ غريبةٌ. قد ننسى يومَ تخرّجنا، لكنّنا نحتفظُ بتفاصيلَ دقيقةٍ عن رائحةِ خبزٍ كانَتْ أمُّنا تخبزُهُ في صباحٍ بعيد. لماذا هذه بالذات؟ لأنّها، ربما، لامستْ فينا سؤالَ الانتماءِ، الدفءِ، الأمان. 

الذكرياتُ الخالدةُ هي التي تصبحُ نقاطَ ارتكازٍ لهويتنا. إنها الأحجارُ الكريمةُ في تاجِ وجودِنا، التي تلمعُ في الظلامِ لتذكّرنا: كنتُ هنا. شعرتُ بهذا. عشتُ تلك اللحظةَ.  

الغيابُ - مرةً أخرى - يلعبُ دورَ النحاتِ. قد لا ندركُ قيمةَ لحظةٍ أو شخصٍ إلا عندما يصبحا جزءًا من الماضي. تحوّلُ المسافةُ الزمنيّةُ أو المكانيّةُ التفاصيلَ العاديّةَ إلى أيقوناتٍ مضيئةٍ في متحفِ الذاكرة. كأنّ الحاضرَ يبهتُ، والغيابَ يكشفُ.


حوار مع البحر: 
نحنُ الآن، عند حافةِ النافذة، ننظرُ إلى المدينةِ التي تضيءُ مصابيحها الواحدةَ تلو الأخرى. الفنجانُ الفارغُ على الطاولةِ لا يزالُ يحملُ شبحَ الرائحةِ والطعم. 

الذكرياتُ التي استيقظتْ مع القهوةِ تتراجعُ الآن، مثلَ أمواجٍ تنسحبُ بهدوءٍ عن الشاطئ، تاركةً وراءها رغوةَ الأسئلةِ اللامُتناهية.  

هل الذاكرةُ سجلٌّ أمينٌ أم أنها فنانٌ تشكيليٌّ يعيدُ تشكيلَ الماضي بألوانِ مشاعرنا الحاليّة؟ هل نحنُ أسيادُ ذاكرتنا، أم أننا بحّارةٌ ضائعون في محيطِ عقلنا الباطنِ الهائل، نركبُ أمواجًا من الروابطِ الحسيّةِ التي لا نُمسكُ بزمامها؟  

لماذا تبقى بعضُ اللحظاتِ الصغيرةِ حيّةً فينا كالنارِ تحت الرماد، بينما تتحولُ أحداثٌ كبرى إلى غبارٍ في مهبّ النسيان؟ ألعلَّها تلك التي تمسّ، ولو بخيطٍ رفيعٍ، سؤالَ معنى وجودِنا، أو جرحَ وحشتِنا، أو نورَ فرحِنا الأصيل؟ 

نحنُ لا نملكُ إجاباتٍ قاطعةً. فنجانُ القهوةِ هذا سيُغسَلُ غدًا. الرائحةُ ستتبدّد. لكنّ الذكرى التي أثارها... ستبقى. كخريطةٍ مجهولةٍ مرسومةٌ على جدرانِ عقلِنا الباطن. تنتظرُ رائحةً أخرى. صوتًا غريبًا. لمسةً غيرَ متوقعة. لتظهرَ من جديد. كقنديلٍ مضيءٍ في أعماقِ البحرِ المظلم. 

سؤالٌ يطفو ببطء على سطح المعنى: نسألُ البحرَ الذي ابتلعَ آلاف الذكريات: هل نعيشُ فعلاً في الحاضر؟ أم أن حاضرَنا ما هو إلا رحمُ ذاكرةٍ لا تكفُّ عن ولادةِ الماضي من جديد؟

نحنُ ننظرُ إلى السماءِ الأولى. نجومٌ قديمةٌ جدًّا... ضوؤُها هو ذاكرةُ الكونِ نفسه. ونحنُ، وإن غبنا، جزءٌ من هذا الضوء العتيق... نواصلُ التوهج. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يضيء الأفق بعد العتمة

  حين يضيء الأفق بعد العتمة رسالة في الصبر والفرج   في زحام الأيام الثقيلة، حيثُ تتكدّس الهموم في الصدر كما تتكدّس الغيوم فوق سماءٍ ضا...