الثلاثاء، 5 أغسطس 2025

مسرَّاتٌ عابرة... وتحدٍّ خفيٌّ في كأسِ الزمن!

 
مسرَّاتٌ عابرة... وتحدٍّ خفيٌّ في كأسِ الزمن! 


حين يُعانقُ الضوءُ الباهتُ… غبارَ الذاكرةِ المعلّقةَ في فضاءِ ركنٍ قديم،
جلستُ كظلٍّ منسيٍّ في زاويتي...
كأنّي حرفٌ طائرٌ،
هبطَ من صفحةٍ مُصفَرَّة،
لا أُحدِثُ ضجيجًا…
ولا أُثيرُ انتباهًا…
بل أذوبُ في اللوحةِ، كجزءٍ من صمتِها.

ثمّ...
تناهى إلى مَسامِعي صوتٌ شجيّ،
يرقصُ بين ثنايا الهواءِ البارد،
ينسجُ لحنًا حزينًا...
لمدينةٍ نائمة،
أو ربما... لمدينةٍ لم تُولدْ بعد.

كانت رائحةُ البُنّ…
كثيفةٌ… عطرةٌ…
تُعانقُ نسماتِ الصباح،
كأنّها تفتحُ خزانةَ ملابسِ زمنٍ مضى...
وتُخرجُ منها حنينًا مدفونًا،
في تجاويفِ الروحِ المعتمة.

ذاك الحنين...
لأيامٍ كانت القصائدُ تُنقَشُ بأنفاسِ الروح،
على أوراقٍ بالية،
لا تُلمسُ بأطرافِ الأصابع…
على شاشاتٍ باردة.

سألتُ نفسي،
ما سرُّ قهوتِها المُرّة هذا الصباح؟
أهوَ سرُّ الزمنِ ذاتُه؟
أم سرُّ يدٍ خفيةٍ...
تعصرُ الحكاياتِ في الكوب؟

تنهّدتِ اللحظة،
كما لو أن عازفَ كمانٍ
مرَّ بأصابعِه الهاربةِ
على أوتارٍ متهالكة...
فاستيقظَ منها لحنٌ...
يأسرُ الأرواحَ المُتعبة،
في ظلالِ صالةٍ غافيةٍ،
مفتوحةٍ على الحنين.

دعوةٌ صامتة...
للتأملِ في كينونةِ الأشياء،
لا في قشورِها.

فكلُّ ما حولنا —
من حبّةِ قهوةٍ ضائعةٍ على الطاولة،
إلى ظلِّ غيمةٍ عابرةٍ على الجدار —
يحملُ قصةً مكتومة،
كمخطوطةٍ لم تُقرأْ بعد.

وفجأة...
تحوّل المكانُ إلى رصيفٍ دافئ.
وجوهٌ عابرة...
شابٌّ يحدّقُ في كتاب،
وكأنّهُ يبحثُ عن بابٍ خفيٍّ بين السطور.
وعجوزٌ...
في عينيها خرائطُ مدنٍ اندثرت،
كلُّ تجعيدةٍ فيها...
طريقٌ مهجورٌ يقودُ إلى حكاية.

حتى رنينُ الملعقةِ الخافت،
على حافةِ الفنجان،
كان كجرسٍ صغير،
يُنذرُ بأملٍ قادم،
في عتمةِ القلوب.

ثمّ… بدأ الهطول.
تساقط المطرُ على النافذةِ العتيقة…
كنزيفِ غيمٍ على أحلامٍ مجروحة.
لم يكن مجرّدَ قطرات…
بل قصائدُ مائيةٌ منسية،
تُهمسُ بأنّ الجمالَ… لا يموت،
حتى حين يذوبُ بصمت،
في زجاجِ الذكرى،
أو تحت وطأةِ الكآبة.

النوافذُ المبللةُ،
لم تكن زجاجًا فحسب،
بل بوّاباتٍ شفّافة.

ومن خلالِ ضبابِها…
رأيتُ عوالمَ موازيةً تتداخل…
خواطرٌ تتكاثفُ كسُحُبٍ داخليّة،
ثم تمطرُ أفكارًا…
تغسلُ غبارَ اليأس.

على حافةِ هذا الضباب،
تلاشتْ حواجزُ الزمن.
الماضي اختلطَ بالحاضر…
كألوانٍ في لوحةِ فنانٍ مجنون.

أليسَ كلُّ لحظةٍ مشبعةٍ بالحضور…
شمعةً تُضيءُ قصةً جديدة؟

الفنُّ الحقيقيّ…
لا يصرخُ بالعظمة،
بل يهمسُ بالجمال،
المختبئ في ثنايا التفاصيل.

تفاصيلٌ...
كفراشةٍ تحومُ حولَ مصباح،
أو همسِ الليلِ…
لورقةِ شجرٍ ساقطة.

هذه التفاصيلُ،
هي أناملُ النحاتِ الخفي،
الذي يُصقِلُ رُخامَ التجربةِ الإنسانيّة،
لتصيرَ منحوتةً لا تُكرّر.

تُراودني فكرةٌ تُلحّ:
الأدبُ… ليس تزيينًا للواقع،
بل غوصٌ فيه، حتى النُخاع.
والحروفُ… ليست حبرًا،
بل أنفاسٌ حيّة…
نكتبُ بها امتدادَ أرواحِنا.

الورقة... لا تنتظر التشابه،
بل الولادة.

الخيالُ هو الطين،
والحلمُ هو الماء،
ونحنُ…
نخبزُ من هذا الخليط،
أكوانًا لا يراها سوانا.

كلُّ كلمةٍ نُلقيها،
شرارةٌ تُضيءُ جانبًا…
من ظلامٍ خفي.

ما نكتبهُ،
ليس وصفًا لما نرى…
بل نحتٌ لما لا يُرى.

وفي النهاية…

ما الأدبُ...
إلا قطارٌ بلا محطّات،
أو ومضةُ فكرةٍ
تُولد وتنطفئ،
كيراعةٍ في عتمةِ الريح.

أهوَ أرضٌ صلبةٌ نمشي عليها؟
أم حلمٌ…
نُسجَ من غبارِ مجرّةٍ سحيقة؟

لعلّ الجواب…
حكايةٌ لم تُكتبْ فصولُها الأخيرةُ بعد،
أو ربما يُكتبُ الآن…
بينَ رشفةِ قهوةٍ مُرّة،
وقطرةِ مطرٍ…
على زجاجٍ بارد.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...