الاثنين، 7 يوليو 2025

تراتيل الانطفاء!

 
تراتيل الانطفاء! 
(نشيدُ البوح الناضج… حين يصبح الانكسار شعرًا، والحب فلسفة، والغياب هدوءًا مقدسًا)


(1) 
الصمت الذي يُدين! 


كان صمتهُ كحجرِ رَحىً يُطحنُ في قلبها،
يدورُ بلا كللٍ على أنفاسِها المبلّلةِ بالانتظار،
حتى صارتْ ذكرياتُهما غبارًا يختنقُ في حلقِ الزمن.

كلُّ همسةٍ لم تُنطَقْ،
كانتْ في عينيهِ: سكونَ الغاباتِ قبل العاصفة،
وفي عينيها: قبورٌ مفتوحةٌ على البكاء،
تُردّدُ أسماءً لم تندثر،
وتنتظرُ من يعتذرُ عنها… أو لها. 

بينهما صمتٌ،
لا يَكسرهُ سوى صريرِ أقلامِ القُضاةِ الخفية،
يكتبون في الهواءِ براءته،
كأنها الحُكمُ الوحيدُ الذي لا يُستأنف،
أما إدانتها… فكانت أنها الوحيدة التي ظلّ قلبُها يصرخ،
أعلى من ضميره،
وأشدَّ من صمته. 

الحجارةُ - حين يُطيلُها الضغط - لا تختار الصبر، بل الانفجار،
فماذا عن القلوب،
إذا نُسجتْ من أعصابِ البراكين،
ونُهِكَتْ من الصمتِ حدّ الحمم؟


(2) 
الصدقُ الذي يُوجِع! 


لم تعُدْ ترضى بأنصافِ ظلالٍ تتلوّى كالأفاعي على جدارِ الوقت،
تُريد كلمةً واحدة… لا تَرتجف،
تُزيحُ بها الجبالَ المتراكمة فوقَ صدرِها،
أو صرخةً تمزّقُ الصمتَ كما تُمزّقُ الصواعقُ جلدَ السحاب،
تُعيدُ ترتيبَ النجومِ في فراغِها،
وتنثرُ معناها على طاولةِ الحياةِ بلا أقنعة.

أما هو، 
فرأى في صراحتِها مطرقةً تهوي على رأسِ المعنى،
وكأنها تُطالبهُ بأن يخلعَ جلدَه،
كي يُدرك دفءَ عظامِها التي نسيتْ أن تُدفأ. 

الوضوحُ…
ذاك النورُ الذي لا يُغفر،
تلبسهُ الحقيقةُ كالمِقصلة،
وتتدلّى تحتهُ رقابُ التوقعات.

أليسَ الصدقُ أحيانًا وجهًا آخرَ للقسوة؟ 
أليسَ طلبُ الوضوحِ المطلق،
هو أقسى أبوابِ السيطرة… حين يُفتح باسم الحب؟


(3) 
محكمةُ الرماد! 


تحوَّل الحبُّ إلى قاعةِ محكمةٍ بلا سقف،
يعلو فيها دخانُ الكلمات، 
وتُلقى على طاولةِ الزمنِ الأخرس رمادُ الأيام التي احترقتْ ولم تشتعلْ.

هي تتّهمهُ بأنه جعلَ من قلبِها مزمارًا ينوحُ في مواسمِ الخذلان،
وأنها عزفتْ، مكرهةً، لحنَ الألمِ أمام جمهورٍ لم يطلب سوى النشاز،
تحمّلهُ كلَّ الخيبات،
كأنّه كان وحده الريح، والمطر، والطوفان!

وهو يقف، لا كمدان، بل كمن تعب من تلقي الصفعات دون محاكمة:
"أين كنتِ، حين كنتُ أنا أشتعلُ بصمت،
وأصيرُ رمادًا يُصفّقُ له الآخرون؟". 

حتى النار، 
تتلكأُ قبل أن تلتهمَ الحقول،
فكيف يُطلَبُ من عاشقٍ أن يحترقَ دون أن يُسأل… لِمَ اشتعل؟ 


(4) 
قلعة الزجاج! 


بنتْ حولَ نبضِها سورًا من زجاجِ الدم،
شفّافًا...
لكنه يَجرحُ كلَّ مَن يحاولُ الفَهمَ دون إذن،
وكتبتْ على بوّابتِه بصمتٍ لاذع:
"ممنوعُ الاقتراب… إلّا بحكمِ الموت،
أو بدعوةٍ من الندم المتأخر".

هو لم يُحاول الاقتحام، 
بل وقفَ يراقبُ ظلَّها يتمدّد كظلِّ اعتذارٍ لا يُقال،
ثم ألقى مفتاحَه في نهرِ الصمتِ، وقال:
"لن أكونَ السجّانَ الذي يبحثُ عن سجينٍ في أطلالِ نفسِه،
ولا الطبيبَ الذي يكتبُ وصفةً لقلبٍ اختارَ أن يَشفى وحده".

أتعلمينَ كم يَزنُ الوادي،
حين يَحملُ دمعَ جبلين لم يعُد بينهما جسر؟


(5) 
حكمةُ الجروح! 


أخيرًا، 
قبلَتْ أن الغيمَ لا يُصاغُ بالأمنيات،
ولا يتبعُ خرائطَ العاشقين،
وأن بعضَ الحبّ، كالكريستال، 
لا يُشرقُ إلا حين ينكسر…
فتنكشفَ داخلهُ ألوانٌ لم نرها،
حين لم يكن مكسورًا… 
فبعضُ الانكسارِ يُفصحُ عن اللونِ الأصدق.

قالت بهدوءٍ أشبهَ بالحقيقة:
"ربما لم تكن العلاقةُ خاطئة،
لكنها لم تكن لصالحي…
والله لا يَمنحنا الألم عبثًا". 

فأومأ هو،
مُبتسمًا كمن اعترف بها بينه وبين نفسه: 
"صدّقيني،
حتى القمرُ…
كان سيجرحنا لو اقترب أكثر". 

أتعلمين؟
حتى الشموع، تُضيءُ نفسَها أولًا،
قبل أن تمنحَ النورَ للآخرين،
ثم تذوب بصمت،
وكأن التضحية جزءٌ من فتنتها... لا من ضعفها.


(6) 
وداعُ الفراشات! 


حزمتْ فراشاتُ الذاكرةِ أمتعتَها الخفيفة،
تلك التي لا تُرى،
لكنها ترفرفُ طويلًا في زوايا الروح.

وهو، 
واقفٌ هناك،
يُلوّحُ لها بيدٍ لا تُمسك بشيء،
إلّا صدى ما كان،
كشجرةٍ خريفية،
تخلعُ أوراقَها لا أسفًا،
بل احترامًا لدورةِ الحياة.

قالَ بهدوءٍ لا يشبه العتاب:
"لا تندمي…
فالحبُّ الذي لا يُؤلمنا،
هو وردةٌ لم نجرؤ على شمِّ عبيرها اللاهب،
والقلب الذي لم يُكسرْ،
لم يعرف كيف ينبضُ لنفسه كما يليق به وحده". 

ثم ابتسم، 
كما يفعلُ من قرأ آخر صفحةٍ في روايةٍ أحبها،
ولم يُرِد أن يغيّر نهايتها.

"أتذكُرين؟
كنّا نُراقصُ الموتَ ونحن أحياء،
لأننا ظننا أن الحُبّ يمنحنا الخلود…
فاكتشفنا أنه كان يُدرّبنا على الفناء برفق". 

جهاد غريب 
يوليو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تلمس السماء القلب!

  حين تلمس السماء القلب!  هل شعرت يومًا بوميضٍ خافتٍ ينبعث من أعماقك؟ ليس من ذكرى عابرة، أو حلمٍ بعيد، بل من مجرد نظرة إلى تلك اللجة الزرقاء...