الخميس، 3 يوليو 2025

الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي!

 
الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي!

تخيّل أنك عالق داخل دائرة مغلقة. كلما حاولت الخروج، تجد نفسك تعود إلى نقطة البداية... لا لأنك تجهل الطريق، بل لأن الجسد يعرفه جيدًا، ويصرّ على العودة. هذا بالضبط ما يحدث حين تتعرض لصدمة نفسية لم تُعالج. ليست مجرد "ذكرى مؤلمة" تمرّ كغمامة صيف، بل تجربة عصبية - جسدية تتغلغل فيك وتُعيد تشكيل كيمياء جسدك من الداخل.

حين يصطدم الإنسان بحدث يهدد أمانه العاطفي – فقدان مفاجئ، خيانة قاسية، أو حتى كلمة خاطئة في لحظة هشاشة – يتحوّل جهازه العصبي إلى صفارة إنذار لا تتوقف. اللوزة الدماغية، تلك الحارسة الصغيرة في عمق الدماغ، تُطلق نداء استغاثة، فيفيض الأدرينالين والكورتيزول كمياه سدّ انهار فجأة. لا تقتصر آثار هذه الهرمونات على تسارع ضربات القلب وشدّ العضلات، بل تسلك مسارات الدماغ وكأنها جرافة، تمهّد الطرق العاطفية وتُعبّدها بالشحنات الحسية.

الذاكرة العاطفية لا تسجّل القصة، بل تنقش الإحساس: رائحة المكان، طنينًا في الأذنين، قبضة في المعدة، انقباضًا في الحلق... كلها تُخزّن كوحدة واحدة، ملف مغلق مختوم بعلامة "خطر". والدماغ، حين يُفتح هذا الملف، لا يراجع أحداثه بل يُعيد عرضها، بمشهد حيّ، بكل ما فيه من صوت وظلّ وخوف.

وهنا تكمن المشكلة: الدماغ لا يفرّق بين التذكّر والعيش. أنت لا تتذكر الصدمة – بل تعيد تمثيلها بيولوجيًا. المشهد ذاته، والإضاءة ذاتها، والنهاية ذاتها. الجسد ينهض من سباته لحظة يستشعر تلك الذكرى، كأنها نداءٌ داخلي يتجاوز المنطق. وكل مرة يحدث هذا، تُقوَّى المسارات العصبية، وتُثبّت الطرق أكثر، حتى يغدو الحزن نفسه طريقًا سريعًا. ومع الوقت، لا يعود الألم ضيفًا، بل يتحول إلى صاحب بيت. نعم... الجسد قد يُدمن الحزن.

ليست هذه استعارة عاطفية، بل حقيقة بيولوجية. في الدماغ، هناك قانون بسيط وخطير: "الخلايا التي تنشط معًا، تتصل معًا". وكلما أعادت الذاكرة تشغيل نفسها، ازداد توهّج تلك الخلايا، حتى يصبح الوصول إليها تلقائيًا. مثل طريق ترابي صار معبّداً من كثرة المرور عليه، تبدأ الذكريات بالتسلل، لا لأنك تفتش عنها، بل لأن الجسد يشتاق إلى كيميائها.

كأن في داخلنا كائناً خفياً يستيقظ فجأة ويقول: "أين ذلك الضيق في الصدر؟ أين الارتعاش؟ أين نكهة الخوف التي أُتقنها؟" إدمانٌ لا يحتاج إلى مال، فقط إلى ذكرى مأساوية يعاد تشغيلها، والجسد يتكفّل بالباقي.

فكيف نكسر هذه الدائرة؟
الهدف ليس نسيان الصدمة – فهذا مستحيل بيولوجيًا – بل إعادة تدريب الجسد على التفاعل معها بشكل مختلف، ومن الطرق الفعالة تحفيز "العصب الحائر"، المسؤول عن تهدئة الجهاز العصبي، عبر التنفس العميق، فحين تتعلم أن تتنفس بعمق أثناء استحضار الذكرى، كأنك تقول لجسدك: "أنا هنا، ولست هناك". تعلمه أن ما كان تهديدًا لم يعد كذلك.

كما أن الكتابة التفصيلية عن التجربة، خاصةً إن شملت الأعراض الجسدية، تساعد الدماغ على تحويلها من مشهد فوضوي إلى سرد متماسك. كأنك تُمسك بيد الذكرى وتجلسها إلى الطاولة بدل أن تتركها تصرخ في الزاوية.

وما يثير الدهشة أكثر، أن الذكريات العاطفية ليست حجارة منقوشة، بل طين قابل للتشكيل. كل مرة نتذكر شيئًا، نحن في الواقع نعيد كتابته، ولو جزئيًا. هذه الظاهرة تسمى "إعادة التخزين"، وهي بوابة ذهبية نحو الشفاء. حين تعيد سرد قصتك في حضرة أمان – مع معالج، صديق، أو حتى في صفحات دفتر – وتضيف إليها نظرتك الحالية ("أنا الآن أعلم أنني لم أكن ضعيفًا... بل كنت إنسانًا يُجرَّب")، فأنت لا تعدّل الذاكرة فحسب، بل تفكّك الروابط السامة بينها وبين الجسد.

الشفاء لا يعني محو الذكرى، بل يعني أن تُطفئ صوتها. أن تتذكر دون أن ترتجف. أن تنظر للماضي بعينيك الحاليّتين، لا بعينيك المبللتين من يوم الحادثة. الذكريات المؤلمة أشبه بالأشباح: تظل موجودة، لكنها تفقد سطوتها حين نتوقف عن إطعامها بهرمونات الخوف.

عندها فقط، يستعيد الجسد توازنه، ويتوقف عن اللهاث وراء جرعته اليومية من الكورتيزول، ويعود إلى كيميائه الأصلية – كيمياء الحياة، لا البقاء. وعندها فقط... لا تختفي الذكرى، لكنها تجلس بهدوء في الزاوية، تقرأ كتابها بصمت، دون أن تصرخ، دون أن تُملي عليك فصول يومك.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي!

  الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي! تخيّل أنك عالق داخل دائرة مغلقة. كلما حاولت الخروج، تجد نفسك تعود إلى نقطة البداية... ل...