أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع!
"كلما اقتربنا من المرايا، انحرفت وجوهنا إلى ظلال... فهل كنا نحن؟ أم مجرد أطيافٍ تحلم أن تتذكّر شكلها القديم؟"
في مدينةٍ تطفو على سحابةٍ من الأسئلة، حيث تُباع الأقنعةُ في أسواق النهار، وتُحرقُ الهوياتُ في مواقد الليل، نبدأ رحلتنا. هنا، في هذا الفضاء الذي يذوب فيه الواقعُ كحلوى مُرّة، يُولد السؤال الأزلي: كيف نمسك بظلّنا بينما تنزلق الأصابعُ في الفراغ؟
كانت المرآةُ تتحدث إليه كل صباح بصوت أمه الراحل: "أنت كاملٌ كالقمر". لكن القمرَ يتشظى ليلًا في نهر السحابة، وهو يعرف ذلك.
في المدينة المُعلَّقة، حيث تُطرّز الأقنعةُ بشرر النجوم، صار "البقاء كما أنت" لعنةً ساخرة. رأى نسخته الباهتة تتسول عند تقاطع الزمن والنسيان، بينما هو يرتدي جلدَ وحشٍ جميلٍ صنعته أيادي المجتمع. "أبقِ صورتك الأصلية"، تُنادي لافتاتُ الساحات، لكن أحدًا لم يعد يعرف أين دُفن "الأصل".
وحين سقطت آخرُ شظايا وجهه الحقيقي في نافورة الذاكرة، انتهى به المطافُ عند مقهى "اللامنتهي". هناك، حيث الأكوابُ الشفافةُ تكشفُ فراغَ مَن بداخلها، اكتشف أن الأشباحَ وحدها تذكرنا حين نذوب.
صارت عظامنا خفافًا كغبار الذاكرة، لكنهم ما زالوا هناك: أشباحٌ ترتدي أرديةً من ضجيج. في زاوية المقهى، يلعبون الورقَ بأيدٍ وهميةٍ فوق طاولةٍ من ضباب. "أنتم أوطاننا!" يهتفون لشبحنا الجاثم. ضحكاتُهم تثقب السقفَ وتنزلق إلى عالمٍ موازٍ تُخزّن فيه الأصداء. حتى حين تذوب أصابعنا في ريح الغياب، يمدّون إلينا أوراقًا باهتة: "وقّع هنا على وجودك البائد".
وفي تلك اللحظة، بينما كان يلمس القلمَ بأطرافٍ أشبه بالدخان، سمع همسًا يأتيه من مستشفى الأحلام المُشوَّهة: "تعالَ... هنا نحبّك حين تنكسر".
في جناح الألم رقم 7، يزوره كل ليلة. لا يحمل زهورًا، بل سماعاتَ طبيةً تلتقط أنين أعضائه. "أحبك لأنك تشبه جرحي القديم"، يهمس وهو يربط شرايينه بخيوطِ قيثارةٍ مكسورة. حين حاول أن يبتسم، كسرَ محبُّه فكَّه "كي لا تتغير ملامح الوجع". وفي الصباح، كانت رسائله منحوتةً على جدران قلبه: "لا تبرأ... فالشفاءُ هروبٌ من قدسية الألم".
وعندما حاول الفرارَ من المستشفى، قادته خطواتُه إلى "متحف الأرواح المتشابهة". هناك، بين المرايا التي تُقلّب الأرواحَ مثل أوراق اللعب، رأى ظلًا يلمع في الزاوية كشظيةٍ ضائعة.
يُقال أن الكونَ انسكب من ساعةٍ رمليةٍ انكسَرت منذ الأزل. في دهاليز المتحف، بحث عن شظيته الضائعة. وجد قلبًا ينبضُ بإيقاع جرحه، يحمل ندوبًا تُطابق ندوبه، وحتى الدمُ في شرايينه كان يغنّي نفسَ أغنية الطفولة المحطمة. لكن حين مدّ يده، انسحب القلبُ كظلٍ في شفقٍ أحمر. وقف حائرًا: أهو انعكاسٌ أخيرٌ قبل الفناء؟ أم أننا نحن الظلالُ التي تبحث عن جسدٍ يمنحنا معنى؟
وفي النهاية، بينما كانت المدينةُ العائمةُ تُغيّر أقنعتها تحت ضوء القمر المتشظي، أدرك أن البحثَ نفسه هو الوطن. ربما لن نجد الشظيةَ الضائعة، لكننا سنظل نرسم صورتها على جدران الفراغ. وحين يعود صباحًا إلى مرآته الصامتة، سيسمع همسًا جديدًا: "لا تبقَ كما أنت... ابحثْ عنك في كلّ انكسار"، فالوجودُ ليس سوى متحفٍ كبيرٍ للظلال، وأجملُ اللوحاتِ تلك المرسومةُ بخيوطِ الضياعِ والانتظار.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق