الأربعاء، 29 أكتوبر 2025

المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص

 

المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص!

 

"كيف تُكتب الذات من شظايا الألم،

وكيف تُزرع البدايات من رماد النهايات"

 


 


لم يكن الليلُ مجرّدَ غيابٍ للشمس،

بل كان عالمًا موازيًا، يخلق من السكون المطبق فضاءً للأسرار،

فضاءً يهمس باسمي في العتمة، يقودني إلى هناك،

إلى حافة بحيرة الظل،

حيثُ يصبح همسُ الذات أعلى من أيّ صخب،

جلستُ.

 

كانت مياهها ساكنةً كمرآةٍ للمجهول،

تعكسُ قمرًا باهتًا أشبهَ بقطعةِ فضةٍ منسيّة،

تتكسر أشعّته على السطح إلى آلاف القطع المتناثرة.

كلّ قطعةٍ منها كانت حكاية،

وكلّ ومضةٍ منها كانت ذكرى غائرة.

 

وفي ذلك الضوء الهشّ،

تحت سماءٍ مرصّعةٍ بنجومٍ صامتة،

وُلِدَ كياني المكتوب.

 

الكتابة لم تكن خطوةً مدروسةً في رحلة التئام،

بل كانت فعلَ بقاءٍ وجودي،

أشبهَ بحركةِ غريقٍ يائسٍ يكتب رسالةً أخيرةً بيدٍ مرتعشة،

يختمها بدموعه، كما يُطفئ آخر شمعة في قلبه،

ثم يُلقي بها في محيطٍ هائج.

 

لا يدري إن كانت ستبلغ برَّ الأمان،

أم ستبقى تتمايل بين الأعماق إلى الأبد.

المنقذ الوحيد كان هو إيمانٌ ضئيل

بأن تصل تلك الزجاجةُ إلى شاطئٍ ما،

وأن تلمسها يدٌ حانية،

قلبٌ يستطيع فكَّ شفراتِ الوجعِ المكتوبةِ بمدادِ الروح.

 

كلّ كلمةٍ كانت أنفاسًا أخيرةً لاحتراقٍ داخليٍّ طويل.

كانت البقايا التي تخلّفت من حرائقَ لم يرها أحد،

من معاركَ خاضها الجسدُ والروحُ في صمتِ غرفٍ مغلقة.

وحين خمد الدخان، لم يبقَ سوى الكلمات،

تنهيدةً خرجت من صدرٍ ضاق بالصمت حتى انشق،

أو صرخةً مكتومةً اخترقت أخيرًا حنجرةً قيّدتها الأيام.

 

كلّ ورقةٍ من أوراق حياتي المبعثرة

وُلِدت على رصيفِ محطةٍ فارغة،

أو في زاويةِ مقهى مظلم،

أو تحت وسادةٍ بلّلتها الدمعة.

وُلِدت من إحساسٍ جامحٍ لم يحتمل القيد أكثر،

فانفجر بركانًا صامتًا،

يلفظُ حممًا من المشاعر المتجمّدة التي أصبحت نصّي.

 

ثمّ حلّ وقتُ القطاف.

عدتُ إلى بحيرةِ الظل،

لا لأروي عطشي، بل لأتأمل صدى روحي على سطحها.

أغرقتُ أصابعي في مياهها الباردة،

التي لم تَعُد عدمًا، بل حياةً ثانية،

مرآةً لأعماقي.

 

جمعتُ القطع،

ليس كمن يجمع كنوزًا، بل كمن يلتقط زجاجًا محطّمًا ليعيد تشكيله.

جمعتُ القصاصات المبعثرة التي حملتها الرياح،

بعضها ممزّق،

وبعضها عليه بقعُ قهوةٍ أو ندى العيون،

وبعضها كُتِب بخطٍّ مضطرب.

 

جمعتُها كما تجمع الأمُّ خصلاتِ شعرِ طفلتها من وسادتها،

بكلّ حنانٍ وألمٍ وأمل.

كانت كلّ قطعةٍ جزءًا من لوحةٍ كونيّة،

أحجيةٌ لروحي لم أكن أعرف تكوينها النهائيّ بعد.

 

هذه الكلمات،

وهذه القطع المجموعة،

ليست شهادةً على ما مضى،

ولا سردًا يحبس الماضي في أقفاص الذاكرة.

 

إنها أشبهُ ببذرةٍ نبتت من تحت تلك البقايا،

لتصير غصنَ زيتون.

هي يدٌ تمتدُّ من بين السطور،

هادئةٌ... ثابتة،

تحمل سلامًا أبيضَ ناصعًا،

كضوءِ الفجرِ بعد حربٍ طويلة.

 

هي دعوةٌ شخصيّةٌ حميمةٌ،

لك،

لأن نسير معًا في هذا البستان الذي نبت من تحت الدمار،

حيثُ تكون رائحةُ الترابِ المبلّل بعد العاصفة

هي عبقَ الانطلاقات.

 

لِنَسِرْ بخطى صادقة،

غير عابئين بندوب الماضي التي صارت مجرّد نجومٍ تزيّن سماء وجودنا،

فما من ضوءٍ إلا ومرَّ بناره أولًا.

لِنَسِرْ بطمأنينةِ من يعرف أن الاشتعال ليس فناءً،

بل تطهيرٌ ضروريّ لولادةٍ جديدة،

كالنباتِ الذي لا يخرج من الأرض

إلّا بعد أن تتشقّق بذرته.

 

لِنَسِرْ ونحن نعلم أن شظايانا المتناثرة ليست عيبًا،

بل هي ما يصنع تفردَنا،

مثل قطع الأحجية التي لا تتكرّر،

لتشكّل في النهاية

صورةً كاملةً لروحنا،

جميلةً في عدم اكتمالها المزعوم.

 

اقترب أكثر...

وعند كلّ كلمةٍ توقّف،

كما تتوقّف عند منظرٍ خلاب،

المسها بحواسك كلّها،

 

فلربما تجد هذه السطور في ثنايا ظلّك المفقود،

ذلك الجزءَ منك الذي تخلف في إحدى المحطات.

ولربما تجد فيها

قطعةً من أحجيةِ روحك التي طالما بحثت عنها.

ولربما تجد هنا السلام الذي تطلبه،

ليس سلامَ النسيان، بل سلامَ المصالحة

مع كلّ ما كان،

مع كلّ من كُنّا،

مع كلّ من سنصير.

 

كنّا نخطّ رسائلنا السرّية

من كهوفنا المظلمة، وأعماق دواخلنا،

تمتدّ رحلتنا المشتركة

إلى رحاب العالم الواسع.

 

بمداد القلب قبل القلم نكتبها،

بدماءِ الألمِ والأمل نكتبها،

ليقرأها...

كلُّ من ضاع في زحام تفاصيله،

كلُّ من شعر بالغربة حتى في نفسه،

كلُّ من أراد أن يعود إلى ذاته.

 

ليس بطلًا بلا جراح،

ولا حاملًا غير صمته،

بل إنسانًا متصالحًا، جميلًا،

يحمل على جلده قصتَه

كالوشمِ العنيد الذي لا يُمحى،

وشاهدًا على أنّه عاش،

حتى لو كان وحيدًا،

احترق... ثمّ نهض من تحت الرماد،

ليبوح من جديد،

لا ليستعيد صوته فقط،

بل ليعلّم الرماد كيف يُزهر.

 

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص

  المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص!   "كيف تُكتب الذات من شظايا الألم، وكيف تُزرع البدايات من رماد النهايات...