عندما تصبح البصيرة مرآةً تعزلنا عن العالم!
هل سبق أن استمعتَ لصوتك داخل كهفٍ عميق؟ ترمي الكلمة، فتعود إليك خاليةً من المفاجأة، كأنما العالم كله أصبح مرآةً ضخمةً تُعيد إليك ما خبّأته في نفسك من شكوك ويقين. هكذا يُصبح من يغوص عميقًا في ذاته خبيرَ دهاليزها، حارسَ أسرارها، يرى في عيون الآخرين مجرد انعكاس باهت لما عرفه من قبل.
غالبًا ما أسبح في محيط داخلي تتخلله شعاب مرجانية من المشاعر. هناك، في قاع الوعي، يلمع الألم كحبة لؤلؤ معتمة، تتشكل في صدفة التجارب. أستشعر تيارًا خفيًا، يدفعني، ويقاومني في آن. عرفت كيف أقيّد أفكاري الجامحة بسلاسل من التأمل، وكيف أُوجّهها نحو شاطئ الأمل دون أن أتحطم على صخورٍ حادةٍ خبأها الحذر.
لكن ما إن أصل إلى شاطئ البشر، حتى ترميني الأمواج بأوراق مكررة، مكتوبةٍ بخطٍّ رتيب: نصائح جاهزة، كأصدافٍ فارغة، لا تحمل إلا صدى ما أعرفه مسبقًا.
هل فكرتَ يومًا أن البصيرة قد تكون نجمًا هاديًا... لكنه يسلبك رؤية باقي السماء؟ نعم، أرى في عتمة تجاربي ما لا يراه سواي، لكن هذا الضوء – بكل ما فيه من بصيرة – يعميني أحيانًا عن شموعٍ صغيرةٍ يُشعلها الآخرون بكلماتهم. لستُ بحاجة لمن يخبرني أن النار تحرق، فأنا احترقتُ مرارًا وأنا أعلّق اللافتات التي كتبوا عليها ذلك! ما أحتاجه، فقط، هو من يجلس بصمته بجانبي تحت المطر، بلا حكمة، بلا وصفةٍ جاهزة للخلاص.
في سجون الفهم العميق للذات، ننسى أحيانًا أن الكلمات ليست قوارب نجاة، بل أيديًا دافئةً تمتدّ حين نغرق. ليس المهم أن يقول الآخرون شيئًا جديدًا، بل أن يقولوا. مجرد الوجود الصوتي للبشر، ولو خافتًا، يربطنا بميناء مشترك، حيث لا تنقذنا الحكمة بل المشاركة. فعندما تصرخ في الفراغ: "أنا هنا!"، لا تحتاج أن تسمع الصدى، بل يكفيك أن يأتيك صوتٌ بشريٌّ يهمس: "أنا أسمعك."
نحن – في رحلة الحياة – نسير على حبل مشدود. نحمل عصًا ذاتَ طرفين: أحدهما بصيرة تلمس الغيم، والآخر صمتٌ يُعانق التراب. إن رفعتَ طرف البصيرة وحدها، اختل توازنك وسقطت في وادي العزلة. وإن تجاهلتها، غرقتَ في تكرار العُميان. الفنّ، كل الفنّ، أن تترك البصيرة تنير الطريق، بينما تفتح يدك للعابرين. قد لا يُلقون لك جسرًا من الكلمات، لكن يكفي أن يلمسوا أصابعك لتتذكر أنك لست وحدك على هذا الحبل المشدود.
فهمك لنفسك ليس قيدًا أبديًا، بل مرآة عملاقة كنتَ تحملها على ظهرك، آن لك أن تضعها أمامك. دعها تعكس العالم، لا فقط أعماقك. حينها، ستدرك أن النصائح ليست جدرانًا تُطوّقك، بل نوافذ تُفتح حين تحتاج الهواء، وتُغلق حين يشتد العصف.
الألم يصبح أخف، حين تمسك يدك طرف الحبل، وتدرك أن على الطرف الآخر أيدٍ مرتجفةٌ مثلك، تحاول الإمساك. لا يملكون الكلمات التي تُطمئنك، لكنهم يحملون العيون نفسها التي خاضت معركتها مع الظلمة. البشر، مهما تفرّقوا في الطرق، يخوضون الحرب ذاتها: حرب الثبات فوق الحبل، والنجاة من السقوط.
فليكن نورك الداخلي شمسًا تُدفئ وجودك، لكن لا تُطفئ القمر. دع للآخرين حق إشعال ظلالك حين تغيب شموسك. فالحياة ليست ملاحم أبطال فرديين، بل نصٌّ جماعيٌّ يُكتَب بأقلام كثيرة، تُخطئ وتُعيد، وتتشابه أحيانًا... لكنها معًا، تصنع القصيدة.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق