أربع وقفات على عتبة الذات!
ليست كل المعارك تُخاض بالسيوف، بعضها يُخاض بالهدوء، بالانسحاب المؤقت، بالتأمل العميق في مرآة الذات حين تغيم الرؤية من الخارج. في زحمة الحياة، لا ينتبه الكثيرون إلى أن التوقف أحيانًا ليس ضعفًا، بل محاولة لاستعادة البوصلة. أن نعيد ترتيب داخلنا لا يعني أن العالم توقف، بل أن أرواحنا قررت أن تواصل بطريقتها، بنبضٍ أوضح، وعين ترى ما لا يُقال.
هذه الوقفات الأربع، ليست وصايا، ولا دروسًا، بل نوافذ كُتبت بلغة من عاشها. قد تجد فيها ما يشبهك، وقد تعبرها وتمضي، لكنك ستشعر بها تلامس شيئًا ما فيك. شيئًا لا يحتاج إلى شرح، بل إلى صمت يفهم.
حين لا يتّسع الداخل!
في بعض المراحل، يشعر الإنسان وكأنه لم يعد على ما يرام، ليس بمعنى المرض أو الانكسار الظاهر، بل بشيءٍ يشبه الضيق الذي لا يُرى… ذلك الذي يمنع الأمل من التسرب إلى الداخل، ويُقيّد الأحلام فلا تتسع، ويجعل الطموح يبدو كأنه فكرة بعيدة، لا يمكن لمسها.
ليس الأمر يأسًا بالمعنى التقليدي، بل هو ذلك التوقيت الذي يسبق الانفجار، حيث تتوقف فيه النفس عن الركض، وتطلب قليلًا من الهواء… لحظة من التأمل… لمحة من الصمت. من المهم حينها التوقف، والالتفات إلى الوراء لا لكي نندم، بل لنراجع ما كان… نُفلتر التجارب، نُميّز بين ما هو ألمٌ خالص وما هو شوائب عالقة، لأن السير إلى الأمام لا يكون نقيًا ما لم يُنقَّ الداخل أولًا.
ليس في ذلك ضعف… بل استعداد صادق لشفاءٍ حقيقي، فلا يمكن للإنسان أن يواسي أحدًا، أو يُشفق على وجعٍ خارج جسده، ما لم يهدأ أولًا ويستطيع النظر في عيني نفسه دون خوف أو إنكار.
حين يحتاج الداخل إلى ترتيب!
في زحمة الأيام وتناوب الفصول النفسية، قد يجد الإنسان نفسه عاجزًا عن الاستيعاب… عاجزًا عن استقبال الأمل، أو حتى توسيع مداركه نحو الحلم.
ليست المشكلة دائمًا في الخارج، بل في الداخل الذي لم يعد يحتمل. ذلك الداخل الذي تراكم فيه الحزن، وتكدّست فيه التفاصيل المؤجلة، حتى بات كل شيء ثقيلًا.
في لحظات كهذه، لا بد من التوقف عن الدوران. عن الركض خلف ما لا نعرف وجهته. لا بد من الجلوس مع الذات دون أحكام، والنظر في المرايا التي اعتدنا تفاديها. ذلك التوقف لا يعني الاستسلام، بل يعني الاستعداد… استعدادًا جديدًا للسير، لكن بعد ترتيب الفوضى التي خلفتها الحياة في الداخل.
من لا يعيد فرز مشاعره، لن يقدر على مواساة غيره بصدق، ومن لا يراجع نفسه في هدوء، سيستمر في تقديم العزاء للجميع بينما هو ينزف بصمت. ولهذا، لا بأس أبدًا أن ينسحب الإنسان قليلًا، أن يعترف أنه بحاجة لترميم داخلي، لأن العودة بعد ذلك ستكون أكثر نضجًا، وأشد نقاءً.
حين تكون الأولوية للشفاء!
ليس من الأنانية أن يؤجل الإنسان الإنصات لكل ما يحدث حوله، العمل، العائلة، العادات، القصص اليومية… كلها مهمة، نعم، لكنها أحيانًا تصبح ضجيجًا إضافيًا لا يحتمله الداخل.
ليست كل الأبواب المفتوحة واجبة العبور، وليس كل من يشاركنا الحديث ينتظر منا الاستجابة الفورية. هناك لحظات في الحياة، يصبح فيها الانسحاب المؤقت ضرورة، لا هروبًا… بل صيانة.
فالمرء لا يمكنه أن يمنح الدفء، إن كان البرد يسكن أضلعه، ولا يمكنه أن يزرع، إن لم تكن تربته قد ارتاحت كفاية، ونفضت عنها الحجارة والشوائب والأعشاب اليابسة.
التربة حين تتنفس، تصبح قابلة للزرع من جديد، وكذلك الإنسان، حين يهدأ، ويعيد ترتيب أولوياته، تبدأ داخله شجيرات صغيرة تنمو بصمت، بلا استعراض، بلا ضجيج، فقط نموّ طبيعي يشبه الشفاء، وعندما تبدأ تلك الشجيرات في الظهور، يمكن للمرء أن يلتفت حوله، ويمنح من نضجه، لا من كسوره، ومن تعاطفه الحقيقي، لا من واجب المجاملة.
التوقف أحيانًا ليس انسحابًا من الآخرين، بل التفاف حنون حول الذات، حتى لا تتحول محاولات العطاء إلى استنزاف.
الصمت الذي يعيد ترتيب النبض!
ليس كل من يتوقف، منهزم، وليس كل من يصمت، ضائع. هناك لحظات في الحياة يصبح فيها الصمت أنقى أشكال القوة، والتوقف أصدق تعبير عن النضج.
بعض الأرواح لا تهدم بسهولة، حتى وإن كانت متصدعة. تتعلم أن تتسلق على حطامها، بهدوء، دون أن تصدر صوتًا. لا تبحث عن الشفقة، ولا تُشهِر انكسارها، لا خوفًا من أحاديث المجالس، بل لأنها تدرك أن البوح غير المنضبط قد يُفسد نقاءها، ويشوّه قدرتها على استعادة توازنها.
من الصعب أن تكون إنسانًا يُعطي بصدق وأنت تنهار بصمت في كل مساء، ولذلك، يصبح التوقف أحيانًا خيارًا شجاعًا... خيار الاعتراف بأن للكل اهتماماته، وأن العالم لا يتوقف عند حزن أحد.
الصراعات بين الأجيال، والاختلاف في المفاهيم، ليست أعذارًا، لكنها حقائق، ولن يُفلح أحد في بناء جسور حقيقية ما لم ينزل قليلًا من برجه، ليتلمّس سخافة ما يراه سخيفًا في نظر الآخرين، ثم يعيد بناء خطابه بلغة تشبههم، لا لغة يفرضها عليهم.
الصمت، في بعض الأحيان، بوابة نقية لمن أراد أن ينجو من تسلّق النفاق الاجتماعي، وأن يعيد ترتيب أنفاسه، لا ليعاتب أحدًا، بل ليغسل قلبه من كل تعاطف مزيف.
الإنسان معقّد، هشّ، جميل، تتكوّن لحظته من طبقات: من خوفٍ وأمل، من ذاكرة وحلم، ولذلك فإن لحظة صمته ليست فوضى، بل وطن. هي قيامته الصغيرة، هي إشراقته التي لا يراها الآخرون، لكنها تنبض فيه، وتمنحه قدرة جديدة على الحياة.
في النهاية، ليس المطلوب أن نفهم كل شيء، بل أن نصمت أحيانًا كي نسمع ما لا يُقال، وأن نعيد ترتيب أنفسنا في المساحات التي لا يراها الآخرون، وأن نحمي بقايا أرواحنا من أن تُستهلك في محاولات مستميتة للفهم أو التبرير.
الصمت لا يعني الغياب، بل قد يكون أعظم حضور، والمسافة ليست هجرًا، بل مساحة للتنفس قبل العودة. فليأخذ كلٌ منّا لحظته، وليعرف أن العودة الحقيقية تبدأ حين نصبح مستعدين للعطاء، لا حين يُتوقع منا ذلك.
امنحوا أنفسكم إذنًا بالتوقف، فالأرض لا تثمر حتى ترتاح، والروح كذلك.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق