حين تتعانق الأرواح خارج النص!
ثمة علاقات لا تُكتب، لا تُوثّق، ولا يُؤذَن لها أن تُذاع، لكنها تنبض في عمق الكيان كما تنبض الأسرار في وجدانٍ يخشى أن يُفسدها الضوء.
أرواح تتلامس كما تتلاقى قطرتان على زجاج نافذة في مساء ممطر؛ لا يهم من أين أتتا، ولا كيف اجتمعتا، المهم أنهما تعرفتا دون مقدمات، وكأن ذاكرة قديمة أعادت تشغيل نفسها بهدوء غامض، كأن الماضي نفسه تمدد في الحاضر ليصوغ اعترافًا صامتًا لا يحتاج إلى لغة.
إنّها علاقات تُولد في اللازمن، وتتنفس خارج السياق، كأنها جاءت لتقول لنا: ما من شيء أعظم من شعور لا يمكن تفسيره، لكنه يغيّرنا دون أن نعرف كيف.
هذه العلاقات لا تعاني من نقص في الحضور، بل من غياب الترجمة، من عالمٍ لم يُصمَّم لفهم ما لا يُقاس، ولم يُدرَّب على الإصغاء لما لا يُقال. العالم لم يتعلّم بعد أن يمنح هذه العلاقات اسماً يليق بها، ولا اعترافاً يليق بقداستها، فكل ما لا يمر عبر قنوات الأعراف والتقاليد يظلّ في الهامش، يظلّ همسًا في الزوايا، ويُخشى الاقتراب منه كما يُخشى الاقتراب من نارٍ مشتعلة خلف حجابٍ رقيق.
لكن ماذا لو كانت هذه النار هي الدفء ذاته؟ ماذا لو كانت هذه العلاقات، التي تخرج عن النصّ، هي النصّ الحقيقي الذي ننساه في ازدحام النسخ الرسمية من الحب والارتباط؟
ليس كل ما يُعلَن هو الأصدق، وليس كل ما يُبارك عليه يُكتب له البقاء. ثمة صمت بين الأرواح أصدق من ألف حديثٍ معلن. ثمة نظرةٌ تسافر من عينٍ إلى أخرى، فتقلب ميزان الزمن، وتجعل اللحظة أطول من عمرٍ كامل. الحبّ الروحي لا يحتاج إلى مناسبةٍ ليُولد، ولا إلى ضوءٍ خارجي ليزدهر. إنه ينبثق كما تنبثق زهرةٌ من شقوق الأسفلت، خارقًا شروط التربة وقوانين الزمن.
فما يُروى بالعين لا يحتاج إلى فم، وما يُفهم بالقلب لا يحتاج إلى شرح، ومن هنا، يبدأ الحبّ الحقيقي بالاتساع، لا من العلن، بل من الصمت الذي يفهم كل شيء.
ما أطهر هذا الحب حين لا يشوبه خوفٌ من الفقد، لأنه يعلم أن الفقد لا يحدث بين الأرواح التي تعارفت. فالأرواح إذا تعارفت، صارت كالأغاني التي نحفظها عن ظهر قلب، نسمعها حتى في الصمت، ونرددها دون أن تصدر من فم.
وما أصدقه حين لا يبهت تحت ركام التفاصيل اليومية، لأنه غير معنيّ بالبقاء في الضوء، بل في العمق؛ كجذرٍ نابتٍ في باطن الأرض، لا يهمّه إن مرّت عليه مواسم الجفاف، لأنه مؤمنٌ بماءٍ لا يُرى.
الحبّ الروحي لا يشيخ، لأنه لا يعتمد على الجسد، ولا يتكئ على الصورة، بل على حضورٍ سرّي في الحواس، على ارتجافةٍ تأتي فجأة حين يُذكَر الاسم، على شعورٍ بأن الآخر موجودٌ حتى في الغياب، كأنه ظلّ لا تراه العين، لكنه يمشي إلى جانبك في الطرقات التي لا تجرؤ على العبور فيها وحدك.
هو حبّ لا يزدهر بالورد، بل باليقين. لا يطلب صكوك الاعتراف، بل يكتفي بعناق الأرواح من خلف الزمن. حين تحبه، لا تنتظر مكافأة، ولا تخشى الخسارة، لأنك تدرك أنك جزء من موجة أكبر منك، موجة خُلقت منذ الأزل، وستعود بك إلى المعنى مهما تقاذفتك الأيام.
هو الحضور الذي لا نعرف كيف بدأ، لكنه يشبه لحظة صلاةٍ صادقة، لحظة خشوعٍ لا تُنسى، لحظة نبوءةٍ تُقال لنا دون كلمات، فنصدقها، ونبتسم كأننا عرفنا شيئًا لم يُقَل بعد، لكنه حيّ فينا.
ولأن الحبّ حين يكون يقينًا، يصبح في ذاته اختيارًا ربانيًا، لا تصنعه الأسباب، بل يكشفه الصفاء الذي لا يراه إلا من نظر بقلبٍ طاهر.
حين يختار القلب دون تدخل من الجسد، وحين يختار الفكر دون تدخّل من العادة، وحين يختار الوعي دون وصايةٍ من منطق المجتمع، فإن هذا الاختيار يصبح رزقًا إلهيًا، رزقًا لا يُقاس بعدد السنوات، بل بكثافة الشعور، ولا يُقاس بقرب المسافات، بل بقرب المعنى.
إنه نعمة لا يُدركها من عيونه لا تبصر إلا الأشياء الملموسة، ومن قلبه لا ينبض إلا إذا رآى، ومن عقله لا يصدق إلا إذا سمع. الماديّون يُدهشهم المال، ويُبهرهم السلطان، لكنهم يعجزون عن تفسير رسالة تصل في الحلم، أو نداء خفيّ يُقشعر له الجلد دون سبب.
حين يتجاوب الجسد مع رعشةٍ لا مصدر لها، أو تنهمر دمعةٌ دون سابق إنذار، فإن الأرواح تتهامس، تتعانق، تتعاهد على الوفاء في غياب اللقاء. لا المسافات تُخيفها، ولا العقبات تُنهكها، ولا الأزمنة تُثقِل خطاها. لا تُستنزَف بالمُهلة الطويلة، ولا تُستدرَج بوهم الانتظار، لأنها لا تسير على خارطة الجغرافيا، بل على نبض المعنى، ولا تنتمي إلى زمن العقارب بل إلى زمن الشعور.
اللقاء الحقيقي لا يحدث في الأماكن، بل في المعاني. وهذه الأرواح، حين تتلاقى، تخلق وطنًا من الشعور، وسماءً من التفاهم، وبيتًا من الوضوح، كأنها أعادت تعريف الحدود، وأعادت ترتيب فكرة الحضور، فلم يعد البُعد يُقاس بالأميال، بل بانطفاء الإحساس، ولم يعد الغياب قطيعة، بل احتمالًا مؤقتًا في قصةٍ لا تنتهي.
غير أن هذه الروابط التي تُبنى في السماء، لا تُترَك دون ابتلاءٍ على الأرض، فكل ما يسمو يثير في البعض قلقًا، وفي البعض الآخر حربًا صامتة ضد ما لا يستطيعون فهمه.
لكن الطريق إلى هذه العلاقة ليس مفروشًا بالنور دائمًا. هناك مقاومة، مقاومة بالفكر لمن يُشكّك، ومقاومة بالكلمة لمن يُهاجم، ومقاومة بالحبّ لمن يُريد الهدم. كل من ذاق هذا النوع من التآلف الروحي يدرك أن الكرامة ليست موقفًا سياسيًا، بل موقفًا روحيًا أيضًا. وأن الوطن ليس حدودًا مرسومة على خريطة، بل صوتًا داخليًا يرفض أن يُدنّس الحب، ويأبى أن يتحوّل النقاء إلى تنازل.
أحيانًا تكون الكلمات معركة، والصمت انتصار، والموقف المحسوب أبلغ من كل الصراخ. أحيانًا يكون الوفاء سرًا، والمقاومة شعرًا، والحب سلاحًا يشهره الوعي في وجه الغياب.
العلاقة الروحية العميقة هي الشكل الأسمى من المقاومة؛ لأنها لا تُدار بالغرائز، بل تُدار بالبصيرة. لا تُستغل، بل تُصان. لا تُستعجل، بل تُنتظر. لأن الأرواح تعرف توقيتاتها جيدًا، وتعرف كيف تصمت حين لا يكون الوقت مناسبًا للكلام.
في هذا العالم المتعجّل، حيث كل شيء يُقاس بسرعة الرد، وكثافة الظهور، ومعدّل النقرات، لا يزال هناك من يؤمن أن الحب الأصدق لا يُعرض على الواجهات، ولا يُقاس بعدد الرسائل، ولا يركض خلف الأضواء.
حب لا يركض، بل يمشي الهوينى في ظل القلب، متأمّلًا، صامتًا، لكنه حيّ. حب يُعاش بكل الكيان، لا يطلب إثباتًا، ولا يسأل عن مكانه في الصور، لأنه يعرف تمامًا أنه ليس من هذا العالم المُتسرّع في نسيانه.
هو حب يعرف أنه عابرٌ للزمن، لا يموت بانطفاء الهاتف، ولا يغيب خلف انشغال الأيام، بل يظل محتفظًا بنفسه كرسالة طُويت بعناية في قنينة، وأُلقيت في بحر الحياة، بانتظار أن تصل يومًا ما إلى شاطئ يعرفها. وإن فُقد في هذه الحياة، فهو على يقين أنه سيُعاد في لقاءٍ آخر، في زمنٍ آخر، في حياةٍ لم تُكتب بعد، كأن الزمن يدخره كما يُدخَر الضوء في عمق نجم لم يحن أوانه ليُرى.
الحب الحقيقي لا يضيع، بل يتخذ شكلاً آخر من الغياب، أشبه بالاختباء لا بالفقد، وأشبه بالانتظار لا بالنهاية، فالحب، رغم كل غيابه الظاهر، يبقى حاضرًا في ثنايا الوجود، يحفر أثره بصمت، ويُعيد ترتيب أقدارنا بحكمة لا تُرى بالعين المجردة.
ليس جنونًا أن نؤمن بذلك، بل حكمة خالدة تتوارثها الأرواح منذ البدء. فكما أن بعض النجوم لا نراها ولكن ضوءها لا يزال يصل إلينا، كذلك بعض الأرواح لا نلمسها، ولكن أثرها يضيء عتمتنا.
وهذه العلاقات الروحية، تبقى خارج الاعترافات العامة، خارجة عن السيطرة والتصنيف، ولكنها في داخلنا، أكثر حضورًا من أي حضور؛ إنها البيت الذي لا يُبنى من حجارة، بل من يقين. والعهد الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالخفق.
إنها البرهان على أن الإنسان، وإن تاه في مادياته، لا يزال يحمل في قلبه شرفةً تطلّ على المعنى، ومفتاحًا صغيرًا لبوابةٍ لا تُفتح إلا حين يتعارف الروحان، ويقرّان، بصمتٍ مطلق: نحن نعرف.
لأننا، في النهاية، لا نبحث عن الكثرة، بل عن التوأم الروحي الذي يفهم الصمت كما يفهم اللغة، الذي يشعر بنا حين ننهار بصمت، ويبتسم في اللحظة التي نعود فيها إلى أنفسنا. نبحث عمّن يشبهنا في العمق، لا في الظاهر. عمّن يكون حضورُه دليلًا على أن العالم، رغم صخبه، لا يزال يحتفظ ببقعة نقية من الدفء، كأنها خُلقت لنا دون سوانا.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق