الفقدُ: حديقةُ الروح الخفيّة!
في ظلامِ الفقدِ، حيثُ تنكسرُ السُّككُ وتضيعُ البوصلةُ، تُولدُ أسئلةٌ لا تُجابُ إلّا بمرورِ الزمنِ. ليسَ الفقدُ انتهاءً، بل هو بابٌ يُفتحُ على مَقامٍ لم نكنْ لنعرفَه لولا فُقدانُ المفاتيحِ القديمةِ. إنّه ذلكَ الصمتُ الذي يسبقُ اللحنَ الجديدَ، والفراغُ الذي يسبقُ الامتلاءَ الأعمقَ. هكذا تزرعُ الحياةُ في قلوبنا بذورَ الحكمةِ بأيدٍ قاسيةٍ رحيمةٍ، كي تنموَ أشجارُنا من بينِ الشقوقِ.
كأنّ الفقدَ ليسَ نهايةً، بل بذرة. نعم، بذرةٌ تُلقى في أرضٍ لا نراها، لكنّها تنمو في أعماقنا، بصمتٍ، حتى يأتي اليومُ الذي تزهرُ فيهِ فهمًا لا يُشترى، ونضجًا لا يُعلَّمُ. عندما يرحلُ من حسبناهم جزءًا لا يُفصَلُ من كينونتنا، لا يعني هذا أنَّ العدالةَ خانَتنا، بل ربّما كان ذلكَ أحدَ أشكالِ الرعايةِ الخفيّةِ. لا شيءَ يسقطُ من بينِ أيدينا عبثًا؛ فالقَدَرُ، بحكمتِهِ التي تتجاوزُ إدراكَنا، يرفعُ ما نظنُّهُ ضرورةً، ليفسحَ مكانًا لما هوَ أصدقُ. ذلكَ الذي غابَ، قد تركَ وراءَهُ فراغًا، لكنّه أيضًا خلّى مساحةً لأعمقَ ما فينا أن يظهرَ، تمامًا كما يحتاجُ الضوءُ إلى عتمةٍ ليتجلّى.
وما الصدمةُ، في حقيقتِها، سوى نعمةٍ متخفّيةٍ بثوبِ الوجعِ. رسالةٌ موجعةٌ من الحياةِ توقظُنا على طبقةٍ لم نكنْ نعرفُ بوجودِها داخلَنا، صوتٌ داخليٌّ كانَ ساكنًا تحتَ ركامِ الاعتيادِ. هي ليست انتقامًا من القَدَرِ، بل تلميح دقيق بأنّكَ جاهزٌ لمرحلةٍ جديدةٍ، وإن كانتْ بدايةُ الطريقِ وعرةً. الألمُ يُهذّبُ الروحَ إذا ما نظرنا إليهِ بعينٍ مختلفةٍ، والخذلانُ يعيدُ تشكيلَ وعيِنا عندما نتوقّفُ عن تفسيرِهِ كعقوبةٍ.
كثيرًا ما بدا لنا المنعُ حرمانًا قاسيًا، بينما هوَ في باطنِهِ سترٌ محكمٌ. أشياءُ كثيرةٌ تمنّيناها، ومددنا أيدينا نحوَها بلهفةٍ خالصةٍ، لكنّها فلتتْ من بينِ أصابعِنا في اللحظةِ الأخيرةِ. لم تكنْ خيباتٍ، بل رحمات مؤجّلة. إنّه اللطفُ الإلهيّ حين يحجبُ ما نجهلُ ضررَهُ، ويمنعُ ليُمهّدَ، ويأخّرُ ليُتقنَ. وحدهُ اللهُ يرى اللوحةَ كاملةً، ونحنُ لا نملكُ منها سوى زاويةٍ ضيّقةٍ ملأى بالتفاصيلِ الناقصةِ.
وفي كلِّ ضيقٍ يشتدُّ، دربٌ خفيٌّ يتّسعُ. الضيقُ ليسَ نهايةً، بل بداية لمسارٍ غيرِ متوقّعٍ. الحياةُ لا تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ، بل تتبدّل كالفصولِ. تأتي بألوانٍ مختلفةٍ، ربيعٍ يبعثُ فينا البهجةَ، وصيفٍ يختبرُنا بحرِّهِ، وخريفٍ يخلعُ عنّا أوراقًا لم تعدْ تشبهُنا، وشتاءٍ يجمّدُ مشاعرَنا لنكتشفَ ما بقيَ منها حيًّا. هذه التقلّباتُ ليست خارجيّةً فحسب، بل تجري داخلَنا أيضًا: مزاجٌ يرقُّ، وحزنٌ يتكثّفُ، وحنينٌ يستوطنُ. كلّها مشاهدُ داخليّةٌ تعيدُ ترتيبَ دواخلِنا بهدوءٍ لا يُرى، ولكنّه يُحسُّ.
ما أصعبَ الدروسَ التي تُعلّمُها الرّحيلُ. أن يفقدَ القلبُ شمسَهُ، أن يغيبَ من ظنّنا بقاءَهُم دائمًا، أن تخلُفَ دفءَ الأنسِ بردَ الوحدةِ. لكنّ الرحيلَ أيضًا معلمٌ حكيمٌ. يعلمُنا ألّا نفرطَ في التعلّقِ، وألّا نُفرّطَ في العطاءِ. فالحبُّ، مثلُ الزهرةِ، لا يحتملُ الغرقَ ولا الجفافَ. الرّحيلُ يوقظُنا على موازينَ دقيقةٍ، أن نحبَّ بحضورٍ لا يتكئُ على امتلاكٍ، وأن نعطي دونَ أن ننسى أنفسَنا.
ولكِ، أيتها المرأةُ التي عرفَتِ الزمنَ القديمَ وبُحّتِ في ضجيجِ الحاضرِ، أنتِ التي عاصرتِ ما تبدّلَ، وما اختفى، وما حاولتِ أن تحفظي جوهرَكِ بينَ ما كانَ وما صارَ... ها أنتِ واقفةٌ. تتألمينَ دونَ أن تتوقّفي. تتذكّرينَ دونَ أن تتحجّري. تسيرينَ، رغمَ كلّ ما خسرتِهِ، نحوَ وعيٍ ما كنتِ لتصلي إليهِ لولا سقوطُ بعضِ الجدرانِ.
كلُّ خسارةٍ، هي مربّيةٌ صارمةٌ. وكلُّ صدمةٍ، هي هديّةٌ مغلّفةٌ بثقلٍ لا يُحتملُ في البدايةِ. لكنّكِ، حينَ تزيحينَ الغلافَ، تجدينَ بذرةً نادرةً وضعَتْها الحياةُ في يدِكِ. ومهمّتُكِ الآنَ، أن تسقيَها، لا بالدموعِ فقط، بل بالثقةِ التي ولدَتْ من رحمِ الألمِ.
عِشي فصولَكِ كاملةً. لا تستعجلي الربيعَ، ولا تختصري الشتاءَ. ابكي حينَ تحتاجينَ، واضحكي حينَ يزورُكِ الفرحُ. ولا تحاولي الفرارَ من صيفِ التجاربِ، ولا تقاومي خريفَ التخلّي. كلُّ فصلٍ يحملُ لكِ هديّةً، وكلُّ مرحلةٍ تُعدّكِ لما بعدَها.
في النهايةِ، لن تعودَ كما كنتَ قبلَ الفقدِ. ستحملُ ندوبًا تشبهُ جذورَ شجرةٍ قديمةٍ، تحكي قصصَ الرياحِ التي مرّتْ بها. لكنّ هذهِ الندوبَ هي أيضًا خريطةٌ جديدةٌ لقلبٍ تعلمَ أن ينبضَ بلا ضماناتٍ، ويحبَّ بلا شروطٍ. الفقدُ ليسَ محطةً نهائيةً، بل هوَ الريشةُ التي تُعيدُ رسمَ حدودِ الروحِ. ففي كلِّ شيءٍ يُسلبُ منّا، يُمنحُ شيءٌ آخرُ لا نراهُ إلا بعدَ أن تنقشعَ الغيومُ. هكذا تتحوّلُ الخسارةُ إلى حديقةٍ خفيّةٍ، نزرعُ فيها أشجارَ الصبرِ، ونقطفُ منها ثمارَ المعنى. وذاتَ يومٍ، سننظرُ إلى الوراءِ فنجدُ أنَّ كلَّ فراغٍ تركَه الغائبونَ، قد امتلأَ بنورٍ لم نكنْ لنعرفَهُ لولا ظلامِ الفقدِ.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق