الأربعاء، 11 يونيو 2025

نبض الأمكنة الخرساء!

 
نبض الأمكنة الخرساء!

في الوجع الخفيّ الذي تخبّئه الجدران، حيث تصير الذكرياتُ وشمًا وجدانيًّا على جبين المكان، تتكلم الأمكنةُ لغةَ الصمت حين يطول الغياب.

ثمّة أماكن لا تحتاجُ إلى دموعٍ لتنزف؛ يكفيها فراقُك كي تشرع في النزيف. ليست حجارةً، ولا رسومًا على خريطة، بل قلوبٌ معلّقةٌ على خيوط الذاكرة، تنبضُ بروائحنا، وتحفظُ في زواياها صدى ضحكاتنا، وتتوسّدُ أحلامنا القديمة كوسائد تشعُّ دفئًا.

حين نغيب، تتثاءبُ المقاعدُ في الوحشة، وتتقلّصُ الأرصفةُ كأنما تبحثُ عن ظلٍّ لن يعود. في الزوايا ارتعاشةٌ خفيّة، ورجفةٌ في مقبض البابِ كأنّه يلمسُ غيابًا متردّدًا. المكانُ لا يُلقي سؤالًا، بل يختزنُ: "أين كنتم؟" في صمته، ويسقطُ عنك غبارَ الأعذارِ كلما عدتَ، مصافحًا إياك وكأنّك لم تغب.

كلّما مررنا بهذه الأمكنة، نسمعُ صدى ذواتنا الغابرة، ونرى ظلالًا تمشي بمحاذاة خطواتنا؛ نلوّح لأنفسٍ لم تعدْ تعرفنا. الأماكن لا تشيخ لأن الزمن مرّ، بل لأن الحبَّ فيها صارَ طيفًا. كلُّ غيابٍ ينحتُ تجعيدةً في وجه الحجر، وكلُّ نسيانٍ يُراكمُ الغبارَ على ملامحه.

لا تهجروا الأماكنَ التي أحببتم فيها أحدًا، فهي تفهمُ الفقدَ أعمقَ من قلوب البشر. تبكي بلا دموع، وتتأوّه كأرواحٍ أنهكها الغياب. نعود إليها لا كزوارٍ عابرين، بل كرفاقٍ للحنين؛ نحاور الصخورَ الصمّاء، ونتراشق مع الشوارعِ ذكرياتٍ، ونرسم في الفراغ طيفَ أحبّةٍ رحلوا، فإذا بنا والمكان نستجدي بعضنا: "ابقَ قليلًا، لترتق أنفاسُك هذا الغياب".

من يرحل؟ ومن يبقى؟ نحسبُ أننا نملك الزمن، والزمنُ يسرقنا من أحضان اللحظات. نندبُ الغائبين، بينما الأماكنُ تنكسرُ من فرط فقدهم، فتتحول إلى صناديقَ للأسرار، تُقلب وجعها كأوراق الخريف، تشهق بما تبقّى من عبقٍ ذهب، وتتصدّعُ حنينًا كزجاجٍ هشٍّ تخذله الشمس.

يا لذاكرةِ الغائبين التي تسكننا! كأنّهم غادروا أجسادًا، لكنّهم أقاموا في أعماقنا إقامةَ الخلود. غرباءُ على عتبات الرجاء، لا مجيبَ ولا مُنصت، والحنينُ يرتدي نعشَه الأسود لا يخلعه، واللقاءُ يتلاشى كحلمٍ يتوه في الضباب.

الأماكنُ توأمُ أرواحنا: تشتاق، تنتظر، تحلم؛ لكن لا يدَ تمسحُ عن جبينها التعب. تبقى صامتةً كأنها تنبض: "أنا هنا... لا تنسَ أني كنتَ مأوى عشقك، ومسرحَ فرحك".

احفروا ذكرياتكم على جدرانها، وارسموا على طاولاتها عبقَ حضوركم، فلربما يأتي بعدكم من يبتسمُ لقصةٍ لا يعرف أبطالها، ويبكي لفراقٍ لم يعشه، لكنه أحسّ به.

لا تركضوا وراء سرابِ الانشغالات، فللّحظات البسيطة سحرُ منحِنا أعمارًا موازية: نورٌ صغيرٌ في عتمة العجلة، أو جدولٌ يتشعّبُ من دمعةٍ نقيةٍ ليروي قلبًا أحرقه التوق.

وحتى لو شاخت الجدران، وتآكلت الأرصفة، فهي لا تموت. تقف شامخةً تنظر إلينا بعين الرجاء، تتنفّس مع أنفاسنا، وتهمس في صمتها: "أنا ما زلتُ هنا – عودوا، فالأمكنةُ لا تكتمل إلا بكم".

نحن والمكان، مجرد صدى لأضواءٍ خفتت، لكنّها لم تنطفئ...

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...