السبت، 17 مايو 2025

اجتماعات بلا روح: حين يصبح اللقاء وهمًا والحقيقة غريبة!

 
اجتماعات بلا روح: حين يصبح اللقاء وهمًا والحقيقة غريبة!

ما قيمةُ اللقاء إذا تحوّل إلى مسرحٍ للنفاق، حيث تُختزل الحقيقةُ إلى مجرّد ظلٍّ خجولٍ، وتُستبدل بالكلمات المزيّفة وابتساماتٍ لا تعبر إلا عن الخوف؟ لماذا نُصرّ على الاجتماع ونحن نعلم أن الحقَّ يُغتال بصمتنا، وأن الجهلَ يُكافأ بمجاملاتنا؟ أليس في ذلك سقوطٌ أخلاقيٌّ يُضاعف من شرخِ الواقع ويُعمّق جراحَ الضمير؟ 

انتقلنا من زمنٍ كان اللقاءُ فيه مناسبةً للتنوير والتقويم، إلى زمنٍ صار فيه التجمعُ وكرًا للجهل المُقدَّس. نُهادنُ الغباءَ المتغطرس، ونُزيّنُ العنفَ المُمارسَ باسم "البراءة"، وكأننا نُبارك الانحدارَ بدلَ أن نرفضه. فهل يُعقل أن يُمنح الجاهلُ أكثرَ مما يستحق، بينما يُدفن الحقُّ تحت ركامِ المجاملات؟ 

أيُّ معنى يبقى للحديث إذا كان الحاضرون يخافون كلمة "أخطأت" أكثرَ من خوفهم من الخطأ نفسه؟ لماذا يتحوّل الجمهورُ إلى خائنٍ للحقيقة حين يختار الصمتَ عن الباطل، أو الأسوأَ – يضحكُ له؟ أليس من العار أن تتحكّم نزواتُ الجاهلِ في مصيرِ الحوار، بينما تُقصى حكمةُ العاقلِ كما يُقصى ثوبٌ بالٍ؟ 

هنا تكمن المأساة: نحن نعرفُ الحقيقةَ جيدًا، لكننا نرتعبُ من مواجهتها. نُفضلُ الهمسَ في الظلام على الصراخِ في النور، وكأنَّ في الصدقِ جريمةً، وفي النفاقِ فضيلةً! فمتى ندرك أن السكوتَ عن الخطأ ليس أدبًا، بل تواطؤٌ؟ ومتى نعتبر أن قولَ "كفى" ليس جرأةً زائدةً، بل واجبٌ إنسانيٌّ؟ 

تخيّلوا معي: اجتماعًا يتحوّل إلى محكمةٍ صامتةٍ، حيث يُحاكمُ المنطقُ ويُبرَّأ الجهلُ. كلُّ خطأٍ يُكرَّر باسم "القرابة"، وكلُّ مجاملةٍ تُقدَّم تحت شعار "الألفة"، حتى صرنا نُثقل صحائفَ أعمالنا بسيئاتٍ نعرفها جيدًا، لكننا نغضُّ الطرف عنها. فهل هذه هي "العائلة" التي نريد؟ وهل هذه هي "العلاقات" التي تستحقُّ البقاء؟ 

الحقيقةُ الآن كعجوزٍ وحيدةٍ، تقفُ في زاويةِ المجلس، تنظرُ حولها فلا تجدُ من يحملُ عنها عبءَ كلمتها. نحنُ نراها، لكننا نتجاهلها. نعرفُ أنها على حقٍّ، لكننا نخافُ من ثمنِ الوقوفِ إلى جانبها. فهل سنظلُّ نُضحي بالحقِّ على مذبحِ "السلامة الاجتماعية"، أم سنكسرُ القيودَ ونرفعُ صوتَ الحكمةِ قبلَ أن يطغى صمتُنا على كلِّ شيء؟ 

إذا كان الاجتماعُ يعني أن نُغمضَ أعيننا عن الضلال، ونفتحَ قلوبنا للزيف، فليكن التفرُّقُ فضيلةً ننشدها. وإذا كان الصمتُ يعني أن نُسلّمَ بالباطل، فليكن الغيابُ احتجاجًا نعتزُّ به، لأنَّ بعضَ اللقاءاتِ ليست سوى مقابرَ للضمير، وبعضَ البُعدِ قد يكونُ أصدقَ تعبيرًا عن الحبِّ والحقيقة. فاخترْ موقفَكَ بعناية، فليس كلُّ ما يُسمى "اجتماعًا" يُحيي، وليس كلُّ "فراقٍ" يقتل.

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف!

  العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف! (ثلاثون عامًا تحتَ لحاءِ الكلمات: كيفَ تُنتزعُ ر...