حدائق الكلمات: حين تثمر اللغة طمأنينة القلب!
في كل لقاء إنساني، وفي كل لحظة صمت تسبق الكلام، تُطل الكلمات كما تُطل الزهور من بين الأغصان؛ ناعمة، خفيفة، لكنها تحمل في طيّاتها عوالم كاملة. ليست اللغة مجرّد وسيلة للتواصل، بل هي نبض الروح حين تقرر أن تتجسّد، وحديقة إذا ما رُعيت بالصدق نبتت جمالًا لا يذبل.
كم مرة سمعنا جملة غيرت اتجاه يومٍ كامل، أو عبارة أعادت لأرواحنا اتزانها بعد أن كانت تميل؟ ليست الكلمات شيئًا نقوله ونمضي، بل هي فعلٌ يظل متغلغلًا في الذاكرة، يسقي بذور العلاقة أو يجففها، يرمم الشروخ أو يوسع الفجوات.
في البداية، كانت الكلمة بذرةً صغيرة تُلقى في تربة الصمت، فإما أن تنمو زهرةً تفوح بالمعنى، أو تذبل في أرض الجفاف. الكلمات ليست حروفًا مجردة تطفو في الهواء، بل هي كائنات حية تتنفس المشاعر، تحمل في طياتها قوة الخلق أو الدمار، البناء أو الهدم. إنها تشبه تلك الحديقة السرية التي نزرعها في قلوب الآخرين دون أن ندري، فإما أن تورق بأزهار الثقة، أو تصبح أرضًا قاحلة تغطيها أشواك سوء الفهم.
إن الكلمة، حين تنبع من صفاء النية، تشبه نسمة تهب في ظهيرة خانقة، لا تغيّر الطقس فحسب، بل تغيّر المزاج الداخلي لكل من تلامسه!، ونحن، إذ نتحدث، لا نوزع أصواتًا فحسب، بل نغرس في قلوب الآخرين ما نكون عليه: صدقنا، إحساسنا، قدرتنا على الاحتواء، أو على العكس، ضيقنا وضجرنا وسذاجتنا المتخفية في عباءة "التعبير عن الذات".
اللغة ليست محايدة، ولا بريئة، بل تتلوّن بنا، وتخرج من أفواهنا إما مشعة بالحياة، أو مشحونة بما نعجز عن قوله بصدق، وعندما نتأمل كيف تُشكل الكلمات تجاربنا، ندرك أنها ليست وسيلة نقل فحسب، بل هي عدسة نرى من خلالها العالم، ونُرى بها أيضًا. كل عبارة ننطقها تحفر أثرًا في ذاكرة من يسمعها، كالنقش على الحجر، يصعب محوه بسهولة.
هناك كلمات تُشفي الجروح مثل ندى الصباح، وأخرى تُحدث شقوقًا عميقة كالسكين، ولعل هذا هو السر الذي يجعلنا نختار ألفاظنا بحذر، كمن يقطف زهرةً من حديقة الروح ليهديها لآخر، عارفًا أن رائحتها ستبقى عالقة في ذاكرته طويلًا.
ثمة كلمات لا تموت، وأخرى لا تُغفر. كم من جملة قيلت عرضًا، ولكنها علقت في ذاكرة الآخر كأنها وُلدت لتبقى؟ وكم من صمت كان أنبل من قول أخرق؟ أحيانًا لا تكون الحكمة في ما يُقال، بل في ما يُترك دون قول، في تلك المساحة التي تتيح للآخر أن يشعر دون أن يُدفع، أن يقترب دون أن يُسحب، أن يفهم دون أن يُلقّن.
الصمت، حين يكون نابعًا من وعي، هو تربة خصبة للكلمات القادمة، يمهّد لها، يرفع قيمتها، ويجعل منها لحظة ضوء لا لحظة ضجيج، وما أجمل تلك اللحظات التي تتحول فيها الكلمات إلى جسورٍ من نور، تربط بين شطآن الوحدة وتُذيب جليد العزلة.
كلمة صادقة قد تكون المنقذ من دوامة الصمت القاسي، أو الشمعة التي تضيء زاوية مظلمة في قلب إنسان، لكن الفن الحقيقي ليس في الكلام وحده، بل في معرفة متى ننطق، ومتى نسكت، فالصمت أحيانًا يكون لغةً أخرى، أعمق وأكثر بلاغة، كالفراغ بين النوتات الموسيقية الذي يُكمل سيمفونية المشاعر، إنه ذلك الحيز الذي تهيئه النفس لاستقبال كلمات أكثر نضجًا، كالأرض التي تُترك لترتاح قبل أن تُزرع من جديد.
لكن ما الذي يجعل الكلمة نقية؟ أهو صدقها؟ بساطتها؟ توقيتها؟ لعل النقاء لا يكون في الكلمة نفسها، بل في اليد التي تقطفها من شجرة الروح لتقدّمها للآخر. ثمة كلمات قصيرة لكنها تُحدث أثرًا عميقًا، لا لأنها بليغة، بل لأنها صادقة تمامًا، لا تشوبها رغبة في التزييف أو التجميل، وحين تخرج الكلمة النقية، فإنها لا تقف عند حدود الأذن، بل تدخل القلب، وتستقر في مكان دافئ يشبه لحظة صفاء نادرة في خضم الحياة.
هل ندرك دائمًا ثقل الكلمات التي نحملها على ألسنتنا؟ التاريخ يخبرنا أن الحضارات ارتفعت بسواعد الكلام، وسقطت بسيوف اللسان. الكلمة الطيبة قد تصنع سلامًا، والكلمة الجارحة قد تشعل حربًا. والأخلاق هنا ليست مجرد قواعد، بل بوصلة نوجه بها كلماتنا كي لا تضل الطريق إلى القلوب. فما نعتبره نحن مجرد تعبير عابر، قد يكون في نظر الآخرين وعدًا، أو جرحًا، أو حتى مصيرًا.
اللغة بهذا المعنى ليست فقط أداة للتعبير، بل هي أداة للفعل. الكلمة قد تحرّك أمة، تُشعل ثورة، تُنقذ روحًا، أو تُدمّر قلبًا. وقد قيل قديمًا: "جراح السنان تلتئم، وما جرح اللسان لا يبرأ". إن للكلمة أحيانًا وقع السيف، وأحيانًا نفَس الأم، وأحيانًا صفعة الصديق. إنها في جوهرها ليست مجرد طنين، بل مسؤولية. والحديث عن الأبعاد الأخلاقية للكلمات ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية؛ لأننا حين نتحدث، فإننا نوقظ شيئًا في الآخر، نحرّكه، نضعه على سكة قد لا يعود منها أبدًا.
وإذا كانت الكلمات مرايا تعكس أزمنةً وأماكن، فهي أيضًا تتحول معها، كالنهر الذي يجري فيغير مجراه، لكنه يبقى نهرًا، فمعانيها تتسع وتضيق بحسب السياق، كالوردة التي قد تكون في عينٍ رمزًا للحب، وفي عين أخرى ذكرى للألم، وهذا التحول الدلالي ليس ضعفًا في اللغة، بل دليل على حيويتها، وقدرتها على التكيف مع نبض الحياة المتغير.
وللكلمات أيضًا ذاكرة!، تتغير معانيها كما يتغير الإنسان، وتتحوّل من رموز بريئة إلى أدوات معقدة في خضم التاريخ. كلمة "حب" مثلًا، لم تعد تحمل ذات البراءة الأولى التي كانت تعنيها في قصائد الجاهليين، ولا ذات الرهافة التي حملتها في مراسلات الغرام القديمة!، لقد تغلفت بالسخرية أحيانًا، وبالابتذال أحيانًا أخرى، وصارت تخضع لسياق العصر، وثقافة الاستهلاك، وهموم العلاقات العابرة.
لكن رغم ذلك، تبقى هناك كلمات نجت من التلوث، تظل نقية كأنها خرجت توا من فم الحقيقة، وفي النهاية، قد نكتشف أن أجمل ما في الكلمات ليس بلاغتها، بل نقاءها. ليس بهاءها، بل صدقها، ورغم تعقيد اللغة، تبقى البساطة جوهرها الأسمى، فحين نستطيع أن نقول ما نشعر به دون تنميق زائف، دون محاولة إبهار، نكون قد اقتربنا من حدائق الروح، من تلك المساحة التي تنبت فيها الكلمات الطيبة كما تنبت الأزهار في تربة خصبة.
الكلمة الطيبة ليست مجرد أدب، بل هي رعاية، وكما تُسقى النباتات بماء نقي لتزهر، تُسقى العلاقات بالكلمات النقية لتثمر تفاهمًا، وثقة، وطمأنينة، وربما تكون أعظم حكمة نتعلمها هي أن نزرع كلماتنا كالبستاني الحكيم: نختار بذورنا بعناية، نرويها بالحب، وننتظر بصبر حتى تثمر أمانًا وبهاءً. لأن الكلمة النقية ليست مجرد صوت يذهب مع الريح، بل هي بصمة تبقى في القلب، كعطر الزهر الذي يظل عالقًا في اليد، حتى بعد ذبولها.
إننا نحتاج، في هذا العصر المتخم بالثرثرة، أن نتعلم الصمت من جديد، لا كنوع من العزلة، بل كمقدمة للصوت الأجمل، وأن نراجع علاقتنا بالكلام، ليس فقط في علاقاتنا الحميمة، بل في كل تواصل يحدث بيننا وبين العالم. أن نسأل أنفسنا: هل كانت كلمتي جسرًا أم جدارًا؟ هل كانت عزاءً أم عبئًا؟ لأننا، شئنا أم أبينا، نترك بالكلمات آثارًا تشبه الخطى على الرمال، قد تُمحى، وقد تبقى حتى بعد غيابنا.
الكلمات ليست فقط ما نقوله، بل هي ما نصبح عليه، هي نحن حين نقرر أن نخرج من داخلنا لنلمس العالم، فلتكن كلماتنا حدائق لا حقول ألغام، وأغانٍ لا رصاص، وجسورًا لا متاريس. دعونا نزرع في من نحب ما يزهر فيهم بعد غيابنا، لا ما يذبل بهم كلما تذكرونا، لأن الكلمة، حين تُقال بنقاء، تُصبح حضورًا ممتدًا حتى بعد أن يسكت الصوت.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق